04-أكتوبر-2018

معرض في الأمم المتحدة لصور ضحايا التعذيب في سوريا (Reddit)

في إجابة على سؤال ما القسوة البشرية؟ ومن أين يأتي كل هذا الشر الذي في داخلنا؟ هل هو تعبير عن انحراف سلوكي مرتبط بالطبيعة الشخصية للفرد، المتأثرة بالعوامل الجينية وترسبات التربية العنيفة التي قد تعرض لها الجناة في طفولتهم، أم أنها حالة اجتماعية تنبع من عيش الفرد في بيئة خالية من سطوة الشروط الأخلاقية التي تكبل ضمير الفرد وتمنعه من الانزلاق نحو التوحش؟

نظم عالم النفس الأمريكي فيليب زيمباردو عالم 1971 تجربة عرفت بـ"سجن ستانفورد" التي تشبه إلى حد كبير تشبه تجربة مليغرام، اكتشف على أثرها أن الحد الفاصل بين تحول شخص عادي إلى وحش منحط، هو منحه السلطة المطلقة من قبل سلطة شرعية أعلى منه في تعامله مع الأشخاص الذين يطلبه منه إخضاعهم.

يعرف السجان المهمة التي كلفته بها القيادة الحكيمة، فهي واضحة في ذهنه، إنها الهيمنة على سجينه، كما يعرف كيف يفعل ذلك عبر بوابة الألم

إن السلطة "الشرعية" وهي في حالتنا الرئاسة السورية ممثلة ببشار الأسد ومن يليها من رؤساء الأفرع الأمنية، لا تحيل السجان الذي منحته كامل السلطة في تعامله مع معتقلين أو متمردين قد حكمت بنزع إنسانيتهم إلى موظف تقني برتبة وحش، بل إلى مصاف الفنان الوحش. ذلك أنها تضعه أمام وضعية وجودية جديدة كمقرر مصائر لبشر آخرين وهي وضعية لا تختلف عن وضعية الإله الكلي القدرة في شيء، إذ أن أعظم ما في الربوبية الجديدة هي القدرة على الخلق، لكن ليس على طريقة الآلهة التي تخلق من العدم، بل على طريق الفنان المشكل والمحور للمادة الممنوحة له إلا وهي جسد المعتقل.

يعرف السجان المهمة التي كلفته بها القيادة الحكيمة، فهي واضحة في ذهنه، إنها الهيمنة على سجينه، كما يعرف كيف يفعل ذلك عبر بوابة الألم، إلا أن ما هو غير أكيد لديه هي الطريقة الموصلة إلى ذلك، إنه يعيش كل قلق الفنان الذي يسبق حالة الخلق، فاللوحة جاهزة وكذلك مادة الصنع والأدوات، أهذا ما كان يفكر به الجلاد في مطار مزة العسكري وهو يفتش عن الطريقة الأشد إيلامًا لإرسال أحد الضباط المتهمين بالانشقاق عن جيش حكومته إلى الموت، فتفتقت قريحته الذئبية عن استخدام كبل مجدول من الأسلاك الشائكة، أتراه يكون هو السجان ذاته الذي جرب طريقة القتل بالهراوات، بعد أن غطى جسد القتيل بشادر خيمة متهالك؟

اقرأ/ي أيضًا: الاعتراف المنقوص بضحايا السجون.. احتفال نظام الأسد على مذبح المجتمع المتجانس

ينهض الفن على مقول التعبير عن المشاعر؛ أليس الحقد والتشفي والغضب والجنون جزءًا حميمًا من مشاعر السجان، ينهض على المهارة الإبداعية؛ مم يشكو بساط الريح والكرسي الألماني والكرسي السوري؟ الشبح من الأيدي، التعليق من أسفل إلى أسفل، والاختراع السوري الفريد من نوعه، المسمى ظلمًا بالأخضر الإبراهيمي، فيما هو صناعة بلاستيكية سورية مئة بالمئة، كأدوات تعذيب جهنمية.

لطالما كنّا نعيب على الجلادين السورين ضعف خيالهم، لكن ماذا تقولون عن السجان الذي رسم على صدر أحد المعتقلين كلمة حرية بالبارود وأشعل النار فيها؟ وعن الآخر الذي بدلًا من أن يعطي سجينه رشقة ماء أعطاه رشقة رصاص؟

يجادل منظرو الفن: بأن الفن تعبير عن المشاعر بواسطة المهارات الإبداعية بغية خلق منتج جمالي، إلا إنهم ينسون أن التّذوق الجمالي مسألة فردية بحتة فما هو جميل بالنسبة لي هو قبيح بالنسبة لآخر، ومن ثم يصرون على نسيان أهم شيء في العمل الفني ألا وهو المتعة، أي كل ما له علاقة باللذة والألم. السجان الفنان المفتون بنفسه، المتقشف المكتفي بِمَا يجود عليه عالم سجنه المتواضع، ومع ذلك لا يكف عن الإمساك بكل لحظة ألم، أليس الفن إمساك باللحظة الهاربة وتحيينها كما رَآه غوته؟ يالعظمته إنه يتذوق ما ينتج! آثار السياط على أجساد ضحاياه، منتج قبيح من وجهة نظرنا، لأننا لا نرى الجميل إلا على الطريقة اليونانية، التي تجمع بين الوحدة والانسجام والكمال، فيما هي جمال خالص من وجهة نظره، فالجمال بالنسبة إليه يقوم على مبدأ التفكيك لا البناء، فالغاية من التعذيب تفكيك جسد المتمرد إلى درجة من المحو الكامل إلى الدرجة التي قد يعجز فيها الله عن إعادة ترميمها.

إن الفنان المعاقب يعرف العلاقة التبادلية بين جسد المعاقب وروحه، فكل عملية هدم لجسده هي عملية هدم في الجانب الآخر من الروح، ففي سعيه لسلبه خصوصيته الفردية، يندفع إلى مهاجمة أعضاء المعاقَب التناسلية، تارة عبر المواد الصلبة، وتارة أخرى عبر الاغتصاب الممنهج الذي لا يقصد منه جلب المتعة للمغتصِب، بل جلب العار لذات المُغتصب أو المُغتصبة. إن الاغتصاب تحطيم متعمد لذات الفرد واعتداء على خصوصيته التي تجعل منه إنسانًا، ودفعه لتخلي عن ذلك الجسد المنتهك سواء عبر الانتحار أو الجنون، كما دفعه ليحيا فيما لو قدر له ذلك مع عقدة الذنب بلا ذنب، سواء بتحميله وزر هذه الخطيئة التي لم يرتكبها، أو بنقلها لأبنائه من بعده وخاصة في حالة النساء المغتصبات، اللواتي أضحين ضحايا النفي الاجتماعي من أقرب المقربين لهن.

اقرأ/ي أيضًا: إجرام السلطة وقتلتها الكثير.. محرقة سوريا نموذجًا

في وصفه لحالة الجوع الممنهج الذي تعرض له المعاقبين في سجون الأسد، لا يجد الشاب أحمد حمادة المحتجز في فرع المخابرات الجوية في برزة في جعبته أفضل من كلمة مرض، مرض دفع به إلى أن يتلقى صدمات بالتيار الكهربائي على أعضائه التناسلية لإفراطه العفوي في أكل خبز غيره. ثم تابع في سبيل الحصول على الخبز صار بمقدوري أن أصير أي شيء إلا إنسانًا. إن التجويع بدون شك عمل من أعمال الفنان المبدع الذي بمقدوره أن يتلاعب بدورة الحياة، ففي حين يحتاج المرء لثمانية عشر عامًا في سبيل الوصل إلى مرحلة النضج لا يستغرق الأمر من الإنسان الجائع بالعودة إلى عالم الطفولة سوى أيام. ففي الجوع يتعرف الراشد على نفسه حسب الدكتور مصطفى حجازي كطفل منبوذ، مستعد للرضوخ لسلطة سجانه وتحمل المذلة والمهانة في سبيل الحصول على الرضا منه.

إن الفنان المعاقب يعرف العلاقة التبادلية بين جسد المعاقب وروحه، فكل عملية هدم لجسده هي عملية هدم في الجانب الآخر من الروح

إن الضرب المبرح لا يهدف إنزال العقاب بالشخص المتمرد فحسب، بل يقصد منه أحيانًا غسل دماغه المعاقب وتغيير قناعاته، إنها محاولة للعودة به إلى مرحلة الطفولة إلى تلك المرحلة التي كان فيها يعنف أو يضرب من والديه ومن ثم يخرج فيها مهزومًا نتيجة إقراره بالذنب وتعهده بتغيير سلوكه وقناعاته لينال رضاهم عنه، وما كل ذلك إلا لتحويله واشيًا على زملائه. أليس هذا ما حدث مع أحمد حمادة حين وشى به أحدهم، متهمًا إياه بحفر نفق لتدمير الفرع باستخدامه لقطعة معدنية صدئة، كان قد استخدمها في خياطة ملابس داخلية بعد أن ظل عاريا لمدة عام ونصف.

في مواجهة الفنان المفكك، يد آل الأسد القبيحة، تنهض مريم خليف الحالمة بسورية جديدة لتخبر مغتصبها أنه لم يهزمها وستواصل، منار جابر التي تمتلك بصيرة حكيم وعزة نفس أم وإحساس شاعرة، المرأة التي لم تهزمها الأيام التسعة والثمانون مع جثث الموتى، تعلن موت سلطة آل الأسد المتوارية خلف هدير طائرات أبو علي بوتين.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أسماء الأسد.. سيدة الجحيم الأولى 

سجن تدمر حيث "الأسد منع الله من الدخول"