19-نوفمبر-2019

ارتدى سيف الإسلام الوجه اللطيف خلف باب العزيزية، وهو يصارع نزوة غامضة من أجل الوصول للحكم (Getty)

تجمد الزمن في ليبيا عند حقبة الديكتاتور معمر القذافي، وكان تجمد من قبل لنحو أربعة عقود تقريبًا، ربما بانتظار الوريث المطارد سيف الإسلام ليحرك بأصابعه المبتورة راكد السياسة، على النحو الذي يجنب ذلك البلد الثري مصير الأب القتيل.

مضى سيف الإسلام مغازلًا الغرب من وراء ستار، وقوى إقليمية أخرى، فيما ما زال هناك غموض بشأن علاقته بأبوظبي، التي تثبت دلائل تورطها في دعم الإفراج عنه

ارتدى سيف الإسلام الوجه اللطيف خلف باب العزيزية، وهو يصارع نزوة غامضة من أجل الوصول للحكم، في وقت كانت فيه كل العروش العربية تقريبًا تحت وطأة محاولات توريث السلطة للأبناء، بشكل أوشك أن يكون محتملًا، لكنه تحطم بصورة جماعية مع اندلاع ثورات الربيع العربي.

اقرأ/ي أيضًا: تورط أبوظبي في الإفراج عن سيف الإسلام القذافي.. دلائل ومؤشرات

طريق العودة للعزيزية

مطلع هذا الأسبوع تجددت مطالبات المحكمة الجنائية الدولية بتسليمها سيف الإسلام القذافي، المتهم بضلوعه في جرائم ضد الإنسانية، وقمع احتجاجات 2011 وهو طلب وضعت الحكومة الليبية المعترف بها دوليًا أمامه متاريس الرفض مرارًا، وأكدت وزارة العدل تمسكها بما وصفته بـ "السيادة المطلقة للدولة الليبية، وحقها الحصري في محاكمة مواطنيها بتهم ضدهم أمام القضاء الوطني".

وهذا ربما يفتح الباب واسعًا أمام مواجهات محتملة بين طرابلس ولاهاي مقر الجنائية الدولية، خصوصًا وأن سيف الإسلام مُطلق السراح، يحظى حاليًا بدعم وحماية القبائل والمناطق الليبية التي كانت موالية لوالده، ما جعله يطل أحيانًا ليقاوم النسيان، ساعيًا للخروج مجددًا من رماد حريق ليبيا.

على الرغم من أن سيف الإسلام أسفر عن رغبة واضحة في العودة للسلطة، من باب الانتخابات هذه المرة، إلى باب العزيزية كما يأمل، وتفجرت حملة قبلية داعمة له تحت شعار (رشحناك) على أمل أن تصعد به رافعة ذات ثقل قبلي إلى رئاسة ليبيا، غير أن الشاب المتخم بالطموحات، ورغبات دفينة ربما للانتقام مما حاق بهم كأسرة ممزقة حاليًا، كان قد أنكر أيام والده رغبته في قيادة ليبيا آنذاك، وقال في العام  2008 إن تدخله في شأن الدولة بسبب عدم وجود مؤسسات، داعيًا إلى إجراء إصلاحات سياسية في إطار نظام الجماهيرية، ورفض سيف فكرة أنه يمكن أن يخلف والده ، قائلًا "هذه ليست مزرعة نتوارثها". ما يعني أن الرغبة الدفينة كانت تتوخى الوقت المناسب، أو ربما أراد استمالة بعض الفئات التي كانت تتطلع إليه كقائدٍ محتمل، وربما كان يكذب، على طريقة تعرفها المنطقة حتى اعتادت عليها.

سيرة وعلاقات متعددة لصديق توني بلير

مضى الابن أكثر من ذلك مغازلًا الغرب من وراء ستار، وقوى إقليمية أخرى، فيما ما زال هناك غموض بشأن علاقته بأبوظبي، التي تثبت دلائل تورطها في دعم الإفراج عنه، وقد اتخذ بالفعل طريق الحوار وتقديم نفسه كوجه اصلاحي، وقاد المفاوضات لإنهاء حصار بلاده بتقديم تنازلات هائلة، أو بالأحرى تسويات مُكلفة، مثل دفع ملائين الدولات كتعويضات ضحايا طائرة لوكربي والتخلص من البرنامج النووي لبلاده، بل إنه لم يتردد إطلاقًا في انتقاد النظام الليبي حينها، إلى درجة أن مساعدًا في الكونغرس الأمريكي سأله صراحة عما تحتاجه ليبيا، فكان ردًا جريئًا من كلمة واحدة "الديمقراطية".

وهنا استفسر المساعد مندهشًا: "هل تعني أن ليبيا بحاجة إلى مزيد من الديمقراطية؟"، فأجاب سيف الاسلام أيضًا بصورة غير متوقعة "لا.. إن المزيد من الديمقراطية يعني ضمنًا أن لدينا بعضها". إلى ذلك وصفته صحيفة أمريكية وقتها بأنه "الوجه الصديق للغرب من ليبيا ورمز لآمالها في الإصلاح والانفتاح".

سيرة سيف الإسلام الأكاديمية حافلة بالشهادات والمغامرات العاطفية، حيث درس العلوم الهندسية في جامعة طرابلس، وحصل على ماجستير إدارة الأعمال في فيينا عام 2000 كما حصل على درجة الدكتوراة بعد ثمانية سنوات من كلية لندن للاقتصاد، تحت عنوان "دور المجتمع المدني في إضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الحكم العالمية". وأشيع أنه على علاقة عاطفية بالممثلة الإسرائيلية أورلي وينرمان، لكنه نفى ذلك، كما فعلت هي أيضًا، فيما تعددت علاقاته بنجوم المجتمع الغربي. وفي العام 2009، ضم حفل في مونتينيغرو بعيد ميلاده السابع والثلاثين ضيوفًا معروفين، مثل رجل الأعمال الروسي أوليغ ديريباسكا، وبيتر مونك، وأمير ألبرت ملك موناكو، وتوني بلير الذي أصبح صديقًا له، وغالبًا مستشاره.

رجل الغرب المطلوب

من المهم الإشارة إلى أن سيف الإسلام ساهم بشكل غير محدود في قيادة المحادثات مع الحكومات الغربية، وإنهاء عقود طويلة من عزلة بلاده الدولية، مما مهد الطريق لاستثمارات واسعة النطاق في قطاع النفط، إلى جانب الانفتاح الكبير نحو أوروبا، وتأكيده المستمر على أن بلاد في حاجة للتواصل العميق، قائلًا "إذا حدث خطأ ما، فسوف يلومني الناس، سواء كنت في منصب رسمي معين أم لا". وأفلح من خلال مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية التي اشتهر بها في رسم الوجه الغائب عن سلطة ولده، من رعاية العمل الطوعي وتعزيز الحريات الإعلامية نسبيًا.

 لكنه أيضًا بعد اندلاع الثورة الليبية في شباط/فبراير 2011 دخل حلبة المواجهة، على اعتبار أن المعركة أصبحت معركة وجود، وأطل من شاشة التلفزيون الحكومي مهددًا المتظاهرين بالقمع، مشددًا على أنه في حال لم يتم التواصل إلى اتفاق "سوف تمر أنهار الدماء عبر ليبيا". كما أصر على أن والده ظل مسؤولًا عن دعم الجيش وأنه "سيقاتل حتى آخر رجل، آخر امرأة ، آخر رصاصة". كما هاجم بعض القنوات الفضائية التي قال إنها دعمت الفوضى في ليبيا، على حد زعمه.

هل تحرك أصابعه المبتورة ركود البلاد؟

كان إصبعه منعقدًا بطريقة اعتبرها الثوار مستفزة، وهو المشهد الذي قبع في ذاكرتهم إلى درجة التخلص من نفس الإصبع بعد أشهر قليلة، نذرًا عليهم، حين انتهى الأمر به بالفعل تحت قبضتهم.

في نفس العام، أي بعد مقتل والده، كشف المجلس الوطني الانتقالي أن سيف الإسلام قد اعتقل من قبل جيش التحرير الوطني، بموجب مذكرة توقيف ضده، ومع ذلك، في الصباح الباكر من اليوم التالي شوهد سيف الإسلام من قبل صحفيين غربيين يتجول على ما يبدو تحت إرادته الحرة خارج فندق ريكسوس، وقد ظهر في مقابلة تلفزيونية، انتقد فيها المحكمة الجنائية، واعتبرها "محكمة وهمية" تسيطر عليها الدول الأعضاء في الناتو، نافيًا مزاعم قتله، أو حتى هروبه، مرددًا "أنا في ليبيا، أنا حي وحر ومستعد للقتال حتى النهاية والانتقام".

لكنه في تشرين الثاني/نوفمبر من ذات العام، تم القبض عليه برفقة مساعده وهو يحاول الفرار، واحتجز على على بعد حوالي 50 كيلومترًا إلى الغرب من بلدة أوباري جنوب ليبيا، وأشيع وقتها أنه تعرض إلى خيانة من قبل مرافقيه أدت إلى كشف أمره، كصيد ثمين، ومع ذلك نقل إلى الزنتان، حلفاء خليقة حفتر، وأطلق سراحه لاحقًا دون محاكمة، رغم أنه حكم عليه بالإعدام غيابيًا في منطقة أخرى داخل ليبيا.

اقرأ/ي أيضًا: شبح ديمقراطية المحاصصة في ليبيا

أحلام العودة

نجأ سيف الإسلام قبل عامين من محاولة اغتيال على أيدي مليشيا محلية، وفي أقل من عام بعد تلك المحاولة أعلن اعتزامه الترشح للانتخابات الرئاسية، تحت برنامج الإصلاح وإعادة إعمار ليبيا، وهو ما يتعين عليه أن يمضي فيه، كبادرة أمل، وحصان تراهن عليه قوى داخلية وخارجية، حيث حصل بالفعل على دعم روسيا التي يبدو أنها اختارت فتح جدار التواصل السياسي معه، والرهان عليه أيضًا، وغالبًا التعهد بحمايته، فضلًا عن أن الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، أعلن بشكل واضح أن من حق سيف الإسلام القذافي الترشح للانتخابات، إذا توفرت فيه الشروط القانونية، وقال إنه لا يضع نفسه في موقع المشجع أو المعارض لأي شخص يرى في نفسه الكفاءة ويتقدم للترشح.

ارتدى سيف الإسلام الوجه اللطيف خلف باب العزيزية، وهو يصارع نزوة غامضة من أجل الوصول للحكم، في وقت كانت فيه كل العروش العربية تقريبًا تحت وطأة محاولات توريث السلطة للأبناء

في المقابل رفضت الحكومة الوطنية المنتخبة في طرابلس تسليمه للمحكمة الجنائية، وهذا يعني أن حظوظ سيف الإسلام السياسية، باتت في موضع أفضل من الآخرين، وبات هو الأقرب لمعانقة السُلطة من خلال موجة شعبوية تقريبًا، أو بمثابة خيط أمل يراه مناصروه القبليون لعِقد كاد ينفرط في الصحراء الليبية.