01-نوفمبر-2021

لوحة لـ أنطونيو سورا/ إسبانيا

عبثًا نسدُ ثغورَ الزهرِ ونلقًّمها مسكنات السكوت، سنغدو كمن يتعكّز على جرحه، ضنًا منه بأنّها هراوة صلدة، ستعينه على منازلة الخطوب، وإذا به يُذهَلُ عند أول مواجهة، حينما تبيّن أن هراوته تدّعي صلادةً باطنها هشاشة! على أيّ حال سيمضي فارسنا وحيدًا بهمة كتيبة مدججة بالبسالة، شاكمًا غريمَه. إلا أنه بعد هذه اللحظة سيغدو عارفًا برياشِ قلبه وما توارى في أروقته، وعليه ستكونُ عدةُ إسعافاتِه الأولية معه حيثما حلّ وارتحل.

ــ قبل شهر من اللحظة الراهنة

لملمتُ أوراقي المبعثرة كملحن بعدما ألقى تعويذته على المسرح، لوّحتُ لزملائي مودعةً اياهم، غادرتُ القاعةَ على عجالة، محدقةً بصديقةِ يمناي، ساعتي التي ارتأت أن لاتحمّل عاتق نبضي أكثر، فتركتْ يسراي حرةً تقارعُ الوقت.

مسرعة الخطى أتصفح مفكرتي الإلكترونية تحسبًا لمواعيد قريبة، لم أكد أرفعُ طرفي، فتراءى لي محيّاه!

اصطدم بؤبؤ عيني بنيزك أو، هكذا خُيّلَ لي! جفل خافقي لبرهة، تسَمّرتُ في مكاني. ثم بادرتْ ساقاي لكسر سكون جوارحي، جارةً إياي نحوه! رفرفتْ أذرعي لعناقه، تنتابني زخةُ فرحٍ ممتزجة بحنين معتّق، استشعرتُها كأبر في أوردتي.. توقفي!

ناداني العقل أو، مات بقى منهُ نداءً خفيًا: توقفي.. فهذا ليس هو!

لم أشأ تصديقه وهربتُ منه طفلةً خائفةً لحِجرِ قلبي. فما كان من الأخير الّا أن غمرني بوابلٍ من ذهب الذكريات، فألفيتني أقفزُ مع أوراق الخريف، تداعى الواقع وصرت في بعد موازٍ.مع كلّ قفزةٍ شهقتُ غيومًا، وحينما دبّتْ قدماي أرضًا ضخّتْ حياةً في ذلك الحلم. توقفي! صاح بي مجددًا.

أشحتُ عيني عنه وجهةَ الفنار، وخطّت خطايَّ دربًا عبّدتهُ بأنفاسي، فإخْضألَّتْ شجرةُ الآمالِ معرشةً على دربي، تسابقُني بشهقة وتجاريني في حواري:

ـ أنا: كأنّه غيّرَ تصفيفة شعرهُ قليلًا؟

ـ هي: ربما.

ـ أنا: آه كم تغيّرت ملامحهُ!

ـ هي: أربعُ سنين مضتْ.

ـ أنا: سَيرى أنّي تغيرتُ أيضًا.

ـ هي: بالتأكيد نتغير لنتكيف مع الواقع أو.. لنثور عليه.

انقطع استرسالنا بوقفة العقل وسط الطريق محدقًا بعمق أفكاري.

هي: ماذا ينوي؟

أنا: يبغي منعي، بالتأكيد أليس هذا دوره؟ التعقل! أسبقيني بنسج الدرب أملًا يا أغصاني.. أنا في الأثر. واللقيا عند موئلنا.

حزمتُ كلّ ما أوتيتُ من تحدٍ، ورمقتُ به قاطع طريقي، فمادَ برأسه محذرًا. ما عبأتُ به ومضيت..

كنتُ قاب قوسين أو ادنى من هالة موئلي، تخففتُ من كل أحمالي وكدتُ أحلقُ فيه إليه، لولا أن باغتتني مجسات فولاذية عملاقة من خلفي مقيدةً إيايّ، كشّر عقلي عن أنيابه صارخاُ بي هند! أفيقي، ليسَ هو.. عانقني وجثونا بكيًا. صوت النحيب: ليس هوَ! ليسَ.. هوَ! لي..هوَ! ل.. هوَ!.. هوَ!

بعد شهر من اللحظة الراهنة

فيروز تلقي تحية الاشراق على معمورتي وسكانها، يراقص أنغامها عبق قهوتنا الأثيرة. كطقوس مقدسة استهلالية لصباحات بيتي. أجلس أمام صديقي الصدوق الرقمي، الذي باتَ يندر وفائه هذه الأيام. فالتكنلوجيا استحوذتْ علينا أو، هي فعلًا جديرة بالتقدير لما توليه من عنايةٍ بنّا وطيب رفقة. بكل الأحوال كان حاسوبي يجالسني لنكتب نصًا، ربما هوَ هذا النص!

شدَّني من رمشي مشهدٌ عبر نافذة مكتبي في الطابق الثاني، لأميرتي الصغيرة بمعطفها الأحمر، تداعب الريح وجنتيها الباسمة، وهي تحملُ ورقة شجر انتقتها بعناية فائقة. واقفةً وسط نفضات أكتوبرية غزيرة لأشجار قررتْ التعري، لعناق الصقيع حُبًّا.

انسلت الأطياف من فتحة باب ذاكرتي الموارب، وارتختْ صماماتُ مجلداتٍ منسية، لتتسرب حزم مسوداتي في زوايا الغرفة. وذكرتهُ وذكرتني في حضرته. لطالما كنتُ بخفة جنح فراشة معه، بينما حمَل الكونَ عني، حررني وحفّزنّي لأحلم. أطلقني في بيادي الوداعة، التي سوّرها بعينيه، حرصًا واعتزازًا منقطع النظير بي وعليّ. دلّني ووضع يدي على مرتع الخيال، وحينما لامستْ أناملُ روحي ذلك الجمال، ايقنتُ أنَّه من صنوه، بل أنه خُلِقَ منه، فألتفتُّ اليه متسعة العينين انبهارًا، ومن حينها ما فتأ ناظري عليه منصبًا.

والآن أنا لا أشتاقهُ، بل ولا أكاد أذكرهُ أساسًا، لأنّني لم أنسهُ ابتداءً، فهو معي في كل حين وان لم يدرِ هو بذلك.

أيُّ قدرٍ هذا الذي اخترناه أم اختارنا، كيفَ باعدَ مسافاتنا هكذا؟ كانتْ رميةُ نردٍ ما لبثَ أن استقرَ نردها، حتى تغيّرتْ جغرافية حيواتنا والى الأبد. أمسينا شتات مترامية في اصقاع قارتين متنافرتين سياسيًا، مختلفتين حتى النخاع. لذا عمدنا الى تربية الأمل، كما يقول محمود درويش، كمحكومَين بالفراق إلى أجل غير معلوم، وها هو يكبر مع كلّ فجر جديد فنناجيه هل الى عناقٍ من سبيل؟!

اللحظة الراهنة

لكي أحظى بها، لا بد لي من اختصار بِضعَة آلاف أميالٍ وثلاثة بحارٍ ليس إلا. حجزتُ التذاكر وسافرت نحو الموئل. كانت المطارات تعبق زخمًا، مكتظة بالأنام وخلجاتهم ولهاث حقائبهم، لكنما زخم لهفتي فاقها. وكلّما تقلّصتْ المسافةُ بيننا، تعاظم منسوب غبطتي. على مشارف المدينة أنَّتْ سدودي تهالكًا، فهرعتُ لها رتقًا دونما جدوى. كلما اقتربنا منه شبرًا صمّ ضجيجُ قلبي مسامعي، فلا أكاد أسمع سائق السيارة وهو يكرر سؤاله عن أيّ الطرق يسلك. كدتُ أفضي إليه بأنّ كل الطرق تؤدي الى روما القلب. بالتأكيد سيهزأ بي رغم طيبتهُ، وسينعتني بالمغتربة الجاحدة لجنةِ مهجرٍ آوتها فعادتْ محملة بحنينٍ لجحيمِ وطنٍ نبذها.

الغريبُ أني لا زلتُ أكابر وأتعلل بأن غبار الوطن دخل في عيني، فأرى سائقي في المرآة هازًا رأسَه بالإيجاب مع ابتسامة متهكمة، كأنه يقول في سره نعم غبارُ الحنين. لكن حينما وصلتُ محطتي طفح كيلُ السنين. كان موئلي واقفًا بانتظاري وقد انسكبَ بياضُ قلبه على قميصه، كأنّ كلّ جوارحهُ استحالتْ عيونًا مترقبة، كان يقف ثابتًا في مكانه كهيبة جبل، إلا أن قلبه متلعثم الخطى يسترق النظر للمركبات عساها هيَّ هندتهُ؟ حاملًا باقة شذية بها ما ينيف على الستين زهرةً لاستقبالي.

تحجّر الوقت في ساعاته، تجمّد الشارع مع سابلته، تبلور الضوء حتى بُهِتَتْ اليراعات المتراقصةُ حول أعمدة المصابيح. عندها فررتُ اليه، على أعتاب حظنه ارتميت. لملم أشلائي ما إن مسّني بأنامله، التي كدتُ أقبلها لفرط اشتياقي، غمرني، فانغمستُ فيه.. آه كان كتلة من ضياء، يكاد سنا حنانه يخطف روحي. كوّرني في حجر أبهره كسالف أزماننا.

وما زلتني قابعةً هناك في أعماقه، حتى بعدما طويتُ أجنحتي نحو أقاصي الشمال وثلوجه مجددًا، عائدةً لحميمية بيتي ورفاقي، ومستأنفةً معاقرة الحائات: الحلم والحياة والحب.

وبينما أحزمُ ملفاتي بعناية جراح، معانقة لخليلٍ أفضله ويفضلني هذه الأيام، كتابٌ عثرتُ عليه مصادفةً. أُلقي تحيةً باسمةً على أصدقائي وأغادر القاعةَ، وأمضي مسرعةً هنا، لكني لا زلتُ هناك في الشرق. مكورةً في حجره وهوَ يطوقني بأجنحته الملائكية.. يهمسُ لي بترنيمة لطالما شدى بها لي في صغري: "هندي! يا تمر هندي.. يا أغلى مخلوق عندي".

فيجيبهُ كُلّي: أبي! أُحِبُك..

 

اقرأ/ي أيضًا:

ليو ليشنغ: مخالبُ أشجارِ سروٍ في حقلٍ جاف

الراعي الذي صار مزحة في أحاديث الحملان