18-سبتمبر-2018

عبد الكريم مجدل بيك/ سوريا

تسعون صحيفة قلَّبَتْها الأقدار واحدة تدفعُ الأخرى على عجل، طفولةٌ عاريةٌ تمامًا من كل شيءٍ، عاريةً كانت تلك الطفولةٌ ككلِّ شيء، عارٍ حتى من أمكَ، يتيمًا كما جدك اليتيمِ، جدّك الذي هام على وجهه في البراري العارية أبدًا، هاربًا من كيدٍ أبديٍّ عارٍ.

حيواتٌ عاريةٌ بكلِّ تفاصيلها وعناوينها، شقاءٌ عارٍ، فرحٌ، عوزٌ، غنىً وحزنٌ عاريين، تلك عادة القدر العاري في هذي البلاد العارية.

خمسٌ وعشرون عاريًا كنت سببًا في مواجهتهم لأقدارهم العارية، ههنا تسعةً منهم ودعتهم عراةً بيقينٍ عارٍ إلى مثواهم العجول العاري.

لم تذرف إلا دمعةً يتيمة على روح عاريةٍ عدا "أمينة" وكفى، كانت دمعتك تلك عاريةً أيضاً دونما ميثاقٍ خلا شهودٍ لجوجين، لا لم تكن لتذرف تلك الدمعة كذلك لولا أن المطر العاري سال على ثوبها الأبيض المضرّج بوحل هذي الأرض الموغلة في العُريّ على حواف المقبرةِ العاريةِ.

تشهد المسافات أبي. لقد قطعت من ههنا إلى حدود الروس شمالًا، وإلى جبال شنكَال جنوبًا متلهفًا لحصاد رغيف خبزٍ عارٍ تسد به رمقنا نحن العراة. وتشهد وديان كدت تهوي أنت وصحبك العراة فيها وتشهد أيضًا أنهرٌ أشفقت على عوزكم فرمتكم إلى البرِّ الشغوف إلى أقدامكم العارية.

حاسرٌ أنت الآن يا مروِّض الجموح، هكذا هلكتْ كلُّ الأحصنة التي روضتها، لم يبق من إرثها سوى حدوات نخشى النظر إليها نحن الكسالى، نخشى عشقها للتراب حتى وهي عارية صدئة، هكذا ذهبت صيحاتك أنت وعشاق الحرث والنسل، هكذا ودعت محراثك الخشبي عاريًا وحيدًا مهملًا يتفتت عزلة عارية تزاحم الأخرى، أوّاه.. حتى منجلك المرهق كـ"العرجون القديم" ما زال معلّقًا في زاوية كالحة وما زالت أقنعة أصابعك الحديدية مخبأة ميراثًا ثقيلًا، بقايا معدات حراثة قديمة تواجه قدرها مبعثرة هنا وهناك تنتظر من يلملم شتاتها.

حاسرٌ أنت الآن، الآن عارٍ أنت، تمامًا كما كانت شتائمك لنا، حقائقك، يقينك، فكاهاتك، صلواتك، بكاؤك "آناء الليل وأطراف النهار" كل ذلك كان عاريًا أيُّها الرجل.

بربك "شيخو"، كيف حال جارك "سالح" عرفات، الكهل الذي نسي حتى أبناءه ولم ينسك أيها العاري لا وكيف حال جارك "سيد" محمود الكهل البكّاءِ أبداً؟ كيف حال عشرات الرجال الذين دفنوا وفي قلوبهم وخزة أمل الأرض الهباء التي خانتهم. مالهذي الأرض غدرت بكم؟!

عجبًا أيها الرجل، حتى احتضارك كان عاريًا. مناجاة، صلوات بنية الجمع منطوق بها وتمتمات لم أعيها، مناداة لأرواح فاضت منذ عشرات السنين أسماء عرفناها وأسماء سمعنا بها وأخرى لم نسمع بها، مناداة وبحث عن الأنبياء والشهداء، ترى ما الذي كان يدور من حولك ومن حولنا في هذا العماء العاري.

ثلاثة عشر عاريًا تبعثروا في الشتات كحفنة حمص ارتطمت بصخرة عارية، وأنا الرابع بعد العشرة تركتني عاريًا أتلقف بقايا ذكرياتك وما تبقى من أثرك على تلك المخدة، وذلك السرير الذي أخشى النظر فيه وفيك. مازال صوتك في مسمعي لم يخرج بعد، وما زلت أخشى غروب الشمس، أشتاقك أيها العاري كلما غابت الشمس العارية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيسوافا شيمبورسكا: القليل عن الروح

سورٌ حول الصحراء

دلالات: