01-نوفمبر-2019

(Getty) رسم لنمر في باكستان

(إلى جاد، باستلهام من وليم بليك)

 

I

تقف وراء قفصك الزجاجيِّ

في المدينة التي تبني أبراجًا

أطول كثيرًا من أشجارك

وتنظر الى الخارج.

إنهم يرفعون أمامك سبهًا وأكمةً

يوحيان بمسقط رأسك،

هناك جدارٌ أيضًا

أو شاشةٌ، لا فرق بالنسبة إليك،

تركضُ عليه أيائل صغيرة،

تعرف أنها مزيَّفة

فهي لا تشعرُ بما تشعرُ به الأيائل

حقًّا

عندما تحسُّ بوجودكِ المُكَهْربِ

في دائرة قُطْرها قوس قزح

غير أنك بقوة عينيك اللتين لا ترفَّان

وشوقك الى الحريّة الذي لا تسميه هكذا

ترى مواطنك البعيدة معشوشبةً،

تخبئ لك قلبًا ينبض بسرعة.

ربما تتمنى أن تكون نباتيًّا

أو شيئًا من تقليعات هؤلاء

الذين يقفون باستقامة ويمشون على قدمين

لكنك لست كذلك،

هذا قدرك المطبوع بالنَّاب والمخلب،

المغروس في فكّيك الهيدرولوكيين

وعندما أقول قدرك

فأنا أعني طبيعتك الفتّاكة.

أنت لا تلعبُ باللحم ولا تتقاذف بالعظام

مع شبحك الذي يتراءى لك كلَّما تحرَّكتَ،

في هذا القفص الزجاجيِّ الذي وضعوك فيه

وقالوا لك: إنه بيتك.

أنت تعرف أنه ليس كذلك

فباندفاعة واحدة من قوائمك الأولمبية

تسبق حديدهم الطائر.

 

II

أنت فتى السنوريات الأربع الكبرى. درَّة تاجها المُرقَّط. لك قوائم قصيرة وجسد طويل لكي تعدو وتعدو وتعدو إلى الأبد. قدرتك على التأقلم في بيئات مختلفة ميَّزتك عن سلالتك، ولكن بيئاتك تتقلصُ وتتقلصُ حتى أصبحت قضبانًا حديدية في حديقة حيوانات، أو قفصًا زجاجيًّا ترى فيه شبحًا يشبهك يتحرَّك تمامًا مثلما تتحرك ولا تعرف كيف تصنِّفه في مراتب حواسك. اسمك العربي له علاقة بالعلامة، والعلامة لها علاقة بالمصائر. أنت لست فهدًا مع أنك من سلالته، ولا الإليغور، المتسلل، كما يفعل لاعبو كرة القدم الذين يقتنصون الكرة عند خطّ الثمانية عشر. دموعك لا تسيل. أيًّا يكن الموقف. هما بئران غامضتان جافتان تسكنهما خيالات لا يعرفها أحد غيرك. جسدك المرقَّط يموّهك جيدًا بين الأغصان، ووسط أعشاب السفانا، فلا تشعر فريستك إلا وأنت تحدِّق بها بعينيك الجمرتين. لك جمجمة كبيرة وعضلات فكٍّ قوية، والليل مجالك الحيوي. تنام، كأيِّ كائن ملكي كسول، في النهار وما إن يحلُّ الليل حتى يحوم الموت حيث يسوطُ ذيلُك الهواءَ الواجف. طرائدك تشمل كلَّ حيٍّ يتحرك حولك ولكنَّ المفضل لديك الظبي أو الغزال، وبهذا تثبت ذوقك الرفيع. فإن لم تجد غزالك الشارد يمكن للسعدان، الذي أقضَّ مضجعك بلهوه المزعج على الأغصان، أن يسدَّ الرمق. أنت الوحش الوحيد الذي بمقدوره حمل فريسته بين فكّيه الرهيبتين إلى أعلى الأشجار. هذا يعني أنك تعمل وحيدًا. وتأكل وحيدًا، وتخطّط وحيدًا. لا تنخرط في قطيعٍ، فليس لك قطيع. أنت فردٌ. حرٌّ. تحيا وحدك ووحدك تموت. التجمعات لا تجذبك إلا في كونها مجالًا لركضك الذي لا تعود منه خائبًا. رغم ذلك فلست وحدك في الحوزة التي تعلنها، من جانب واحد، مملكتك المطوَّبة، فأنت، وهذا يحسب لك، تعيش في أرض الضواري التي يفوقك بعضها بأسًا، لذلك عليك أن تكون ضاريًا، فإن لم تكن نمرًا نهشتك الذئاب، وربما تجرأت عليك الكلاب وبنات آوى. أنت تعرف الانسان. وجدت عظامك مختلطة بعظامه في بعض الأماكن. هو أضعف منك جسدًا وأقلُّ قدرة على الفتك بيديه وفكيه، لكنه أشدُّ منك مكرًا وحيلة، ويستطيع أن يكون وحشًا من دون المبرر الوحيد الذي يجعل الوحش وحشًا. فهو لا يأكل طرائده الآدمية. يلهو بها. يشبع مشاعر لا تعرفها. لكنها ليست وجبةً واجبة. شاركتَ في المصارعات الكبرى في مدرجات الإمبراطورية، وقبلها شوهد الإله باخوس وهو يمتطيك عاريًا إلا من شعلة في يده، وكنت تبدو سعيدًا بحملك إله الخمر والترنُّح. ليس ذنبك أنهم كانوا يعدمون المجرمين، والذين يقولون لا، بين مخالبك وأنيابك في صحون المدرجات، فأنت لست مسؤولًا عن تنكيل البشر بعضهم ببعض. تُفضِّل الطرائد البريِّة، ابنة الطبيعة الخالصة، على البشر الذين صاروا جنسًا آخر بعد خروجهم من الغابة. فليس كل اللحم يؤكل. هناك لحم لئيم، مخترق بشبكة من الأعصاب والأفكار السامة والنوايا السيئة، التي لا تعرفها أنت في قتلِ ما لا يؤكلُ، ولا يوضعُ على المائدة، وتتلى عليه صلاة الحمد والشكر.

 

III

تزأر في الصور والأشرطة لزمن مندثر. الليلُ سهلُكَ الفسيح رمى على كتفيك دثارَه النديِّ لكي تمرّر عليه لسانك المتشقِّق عندما تذهبُ الى ينبوعك المفضَّل ولا تجده.

أنت لا تفهم كيف تتوارى الأشجار

ويختفي الماء.

يجفُّ.

يغورُ في لا مكان.

ولا كيف تزحف هذه الأشجار

التي لا تهزها الريح.

الأغرب تلك الدبابير الطائرة التي تئزُّ فوق رأسك وتطاردك من شجرة الى أخرى. بين نظرائك حظيت، لسبب ما يطلُّ من عينيك الغامضتين، بالكثير من القصائد والقصص. قلَّدك الرياضيون، وتسابقت شركات السيارات والملابس الرياضية ومشروبات الطاقة على وضع صورك على منتجاتها. ورغم أنك خالٍ من الأفكار والعقائد والتقمُّصات التي يخترعها البشر، فإنك ستولد، مرةً أخرى، في هيئة طفل سميته من أجلك: جاد النمر.

الطفل جاد حفيد الشاعر أمجد ناصر

IV

أيها الطفل النمر.

ها أنت تقف خلف هذا النافذة الزجاجية

وتنظر إلى الخارج.

لا تصدِّق هذا السهب الذي يموجُ كما لو أنَّه سافانا

في حالة غرام مع الريح،

ولا الأرانب التي لها فراء سميكة

وتركض على عشب شديد الخضرة،

ولا السعادين التي تتراقص مَرِحةً

على أغصانٍ مرسومة بدقّة

فهذه مجرد ألعاب لاستدراك ما لم يعد ممكنًا استدراكه.

 

V

لم أولد في السهب الأخضر الأصفر البني تحت السماء الزرقاء البيضاء الرمادية المبقَّعة كجلد ثور مشدود على عضلات فتية، لكني أعرف كل عشبة في السافانا، ومثلما أرى الطريدة في عمق السهب الليلي، أشمُّ رائحة الماء في الغيمة العابرة. قل لمن يذهب إلى هناك لقياس درجة حرارة الأرض أن يحمل أثرًا مني ويعلقه على شجرة القرابين في منطقة النمر المخطَّط الكبير. ذلكم أبي. رغم ضعف عاطفته، سيهبُّ الى فك قيودي. أنا نمر ولم أقل يومًا إني حَمَلٌ، حمامة، أو كلب يمشي وراء صاحبه. مسلكي ابن طبيعتي وليس ابن طبيعة أخرى كما تفعلون، لا أكذب ولا أدعي أنني لن أستخدم مخالبي وأنيابي، وبدل ذلك، سأجلس، كأيِّ سيدٍ مهذبٍ، إلى طاولة وأستخدم الشوكة والسكين، وربما أعزف على البيانو بعد العشاء.

حتى في هذا الأسر الطويل

لم أنقلب على نفسي

ولم أبعها لمن يأتون لالتقاط الصور

إلى جانبي.

 

VI

لو لم أعد موجودًا إلا في الشرائط والصور، سيظل كلُّ من يراني يحسب لي حسابًا. سيقول مثل هذا الجسد المتواثب، العاصف، المنساب كموسيقى برّية، لن يفنى. لأنه سكن الكلمات ومن يسكن الكلمات، تعبير الآلهة والأنبياء المفضَّل، لا يموت، ستبقيه الأحرفُ على قيدِ حياةٍ لا يدركُ أنه عاشها. أتركُ الآن جسدي للبرق الذي يشقُّ الليل فهو ظامئ إلى طاقته الأولى.

 

VII

لظلكَ رهبة تحسها الأرض وأنت تعبر

يحسُّكَ الضوء وهو يعكس النسخة السلبية من هيكلك الكوبالتي.

ليس هذا الضوء ما يجعلنا نراك

بل لهب عينيك الذي يتقدمك.

 

VIII

مات النمرُ الذي ألهم الشاعر قصيدته الشهيرة

وبقي الشاعر،

ثم مات الشاعر صاحب قصيدة النمر الشهيرة

وبقيت كلماته التي تصف نمرًا وهّاجًا على الشفاه

ثم مات الذين ترنموا بها جيلًا بعد جيل

وبقيت القصيدة وحيدةً في الكتاب

ويومًا بعد يومٍ تموتُ القصيدة

كلمةً كلمةً

ولن يبقى منها سوى عنوانها: النمر،

الذي قد يعني في المستقبل شيئًا آخرَ،

فعلًا،

إرادةً،

نجمة.

 

1X

وشَمْتُ يومًا صورة نمر على ذراعي اليمنى. كان الرسم دقيقًا. الألوان مُبْهِرَة. الخطوط منسابة. حتى شعرات شاربيه البيضاء تكاد ترفُّ. كان رأسه الضخم يطلُّ في اتجاه كتفي. وهذا خطأ ارتكبه فنان الوشم غريب الأطوار الذي فهم قصدي، لأسباب لغوية، عكسًا. ولكن كلما استحممت، أو بدلّت ثيابي أمام المرآة، على جري عادتي، أجده يطلُّ برأسه في الاتجاه نفسه. فزعتُ عندما أدركتُ، قبل أيامٍ فقط، أنَّ الصورةَ في المرآة معاكسةٌ لواقعها. هذا يعني أنه غيَّر طلَّته، على ذراعي، من غير أن أنتبه. فكَّرت أنها خدعة بصرية ما. أو خطأٌ في اعتقادي أنَّ فنانَ الوشم، غريبَ الأطوار، لم يفهم قصدي. كلا. لقد فهم. وها هي الصور التي التقطها لذراعي بعد فراغه من نقشه الطوطميّ تؤكد ذلك.

في تلك الليلة حلمت أن النمر استدار. نظر، بعينيه الناريتين، يمنةً ويسرة. ثم نزل، بقفزةٍ واحدةٍ، من ذراعي، واختفى في ليل بهيم، فسيح.

عندما في الصباح ارتديت ثيابي أمام المرآة، على جري عادتي، لم أرَ الوشم.

 

X

الشعرى اليمانية ليست كذلك باللغة التي تسلَّمْتها طازجةً من يدِ أمِّكَ، إنه يسمى "سيروس"، وهذا لا يشبه الشعرى التي تذكِّر قليلًا بالشعر، واليمانية التي تعيد إلى الذهن مملكة سعيدة ضائعة اسمها سبأ.

-كم مرة استخدمت هذا الاسم يا جدي؟

-كثيرًا، ليس لأنني لا أعرف نجمًا غيره في السماء، ولكن لأنَّ وقْعَه كمن يتكئ على مخدَّة من قطنٍ ويواجه سماءً عاريةً وأمامه كاسةُ شاي بالنعنع، وربما لأنه أسطع النجوم طُرًا، وربما لأنه أوصل السائرين ليلًا إلى مقاصدهم، وهؤلاء متوحدون في طبيعتهم.

-أهو ذاك؟

-نعم إنه ذاك البرَّاق الذي لا يخذلُ من يتخذه رفيقًا في أسفار ليلٍ لا يؤمن جانبه دائمًا. يمكنه أن يمنح الماشي على قدميه فرسًا لنصف المسافة، أو أغنية تجعل الطريق أهون.

-هل أخبرك عنه جدك ذو الجديلتين السوداوين؟

-بلى، هو الذي أخذ يدي وراح يحركها، مختصرًا السماء الكبيرة، مثلما أفعل الآن معك، إلى أن استقرَّت عليه، وقال لي: لا تنس هذا النجم، إنه قنديلك الليليّ. حاول أن تلوّح له بيدك البريئة بين حين وآخر فهو وحيد رغم بيدر النجوم الذي يحيط به. لا تقلق إن فشلت في العثور عليه فهو سيعرفك. وعندما تكون وحيدًا في الطريق صفِّر، أو غنِّ، أو تذكَّر أسلافك الذين تركوا لك قصيدة العزلة لكي تضيف لها بيتًا، حتى ترى نارًا تتلألأ في جوف الليل وتسمع صوتًا يقول من بعيد: لقد وصل الضيف. لحظتها

ستكون النمر

الذي انتظروه ألف عام،

ولن تستغرب بعدها

تحولاتك العجيبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مختارات أمجد ناصر: لم أكن أعرف أن الأمل أزهق أرواحًا بهذه الكثرة

قصيدتان إلى طفل في الخامسة