27-ديسمبر-2018

خوان ميرو/ إسبانيا

كنت طفلًا حين طلت الوحوش من نافذة الليل، قادمة من عراء الخارج، من بين أكواخ الحديد التي تحفظ في قلبها الآلات والسم والوحشة، وكانت صورة الوحوش تنفذ عبر العتمة إلى عينيَّ فلا يواريها السواد، وما لهذه الوحوش من شر، وكنت أدري أن ما لهذه الوحوش من شرّ، ورغم ذلك أدفن رأسي الصغير بالفراش، وأموت رعبًا من الصحبة التي يرسمها رأسي على النوافذ، أنا الطفل الذي لم يعرف منذ مولده سوى الوحدة.

وكنت في نهار الطفولة أضاعف نفسي بالوسائد، أصفُّها أطفالًا وصبية، ذكورًا وإناثًا، فأقتل منهم من أشاء وأحي من أشاء، وأحب وأكره وأخاصم ثم أرضى، وكانت المكررات من ذاتي تُلمِّع الوحدةَ بالمجاز وتمدُ طرقَ المضي المقبل عليها، فلم يكن التشبه عندي سوى بغربة نبي أو وحدانية إله.

وتعلمت القراءة والكتابة، فعرفت اسمي، وصرت عليًا بعد أن كنت الفرد الذي يخاف ويفكر ويبكي، وصار عليٌّ كلما اشتعلت في جوفه نار السقم الخفية قصد كتاب الله، وقرأ فبأي آلاء ربكما تكذبان، حتى تبرد النار وينام كنبيٍ صغير لا يقوى على حمل الرسائل، وكانت أمه الساهرة جنب رأسه تحبه نائمًا من بعد سقم وتقبل سورة الرحمن التي أوصدت جفنيه من بعد احتراق.

وفتح علي عينيه على الحرب فغازلته وغازلها، ومضت به إلى بؤرة النار التي تخرج من باطن الأرض فتطيح بالرجال، وتسقط من السماء فلا ينهض الساقط إثرها ثانية، وكان يقرأ الدم سيرة للوطن فيكتبها على الورق، حتى عرِفَ الحب فأنشد عطره ونزف على شوكه، وكان قلبه الجامح يقفز دون لجام على أسوار الحماقات ويسقط المرة بعد المرة، وفي كل مرة كان يكبر كما يُمدد الضرب قطعة الحديد الساخنة.

ثم توقف الزمن بعلي ودار به دورة كاملة، فمر به الوحي ذو الرداء الأسود مرة، وصار صديقه الذي لا يراه ويقرأ على هواجسه مزامير الغربة، فيكتب علي إملاءات وحيه بين انطباق الظلمة وانبثاق الضياء، وكان كل ما أنهى رسالة وحيه سقطت على رأسه الأفلاك، وخطفت الأرض من ساقيه معنيهما، فما قام به شيء سوى قيامته، فيطل بوجهه على الصباح وقد اصطبغ بالمشقة وأسرَّ الليلُ على عينيه سره فصار رسوله تحت الشمس، ومَلكُ الظلال وحارسه على النوافذ.

ثم رأى علي قرينه، فما زالت صورته، وجاء وحيه برداء أبيض، فقال له يا علي هذا قرينك يشتبك اسمك باسمه وتشرق شمسه على عتمتك ويحمل ظهره رسالتك الهائلة، آتِ به إليك، ببريق النحاس وطلاسم الغواية، وانشد له من أمسك، فعندك ما يصفف الجراح ويضبط إيقاع نزيفه.

وأتيت بالقرين فصرت أنا، يدليَّ الطفلُ من على كتفي بساقيه، ويخرجُ من قميصي دخان الحرب، وتدحرج عيناي الدموع إلى ما ورائي. كان القرين عبارة مفقودة من لساني، وحرفًا مضافًا لأسمي وتاجًا على رأس غربتي. وصار القرين حبيبتي. فقلت للشمس يا شمس انسي العداوة وسامحي الهزال في ظلي وأرمي عليَّ منك خيطاً، فأديره وأصنع من ذهبه خاتمًا متعرجًا فأضعه بخنصر حبيبتي، ففعلت الشمس، وصار في يد الحبيبة رباطٌ مني، وصار من الفضة في يديَّ المثيل منه.

يا حبيبتي هذه سيرة التيه، سرت بك عليها في ما مضى، واليوم بعد انتصاف الليل، لن يبلع الفراغ من الأغنية صدى، ولا صفيح ثلج يغطي نصف الرقاد عندك أو عندي. سيخطف الليل مثل سرٍ ويغسل الضوء نعاسنا فلا نرفض اليقظة، ولن تكون بين شفاهنا مسافة، وستعقد أصابعنا على قدر الوحدة عقدة الساحر التي لا تُحلُ ولا تنقطع، ويمر السحر من الروح إلى الجسد فنصبح دون دراية، كما الآن وأبدًا، قصيدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

قطّ أسود وطريق مظلم وأحلام بيضاء

تخيلات أنثى سريالية