سيد حجاب... شاعر أحزنه نجاح أول دواوينه!

تحتفي الهيئة العامة لقصور الثقافة، هذا الأسبوع، بشاعر العامية سيد حجاب (1940 – 2017) والذي يعد واحدًا من أبرز الوجوه الشعرية في مصر على مدى نصف قرن. وقد أسهم مع رفاقه من شعراء العامية المصرية، في الارتفاع بمكانتها والتحليق بها إلى آفاق جديدة من الخيال واللغة على نحو يتجاوز بساطة الزجل أو سخرية القافية. وقد عُرف عنه براعته في كتابة شارات المسلسلات التليفزيونية حتى تسيَّد هذا المجال ومنها: "أرابيسك"، "ليالي الحلمية"، "المال والبنون"، "كناريا وشركاه"، إلى جانب أشعاره البراقة باللهجة العامية والتي صدرت ضمن مجموعات شعرية منها: "صيَّاد وجنيَّة"، "العتمة"، "أصوات"، "نُص الطريق".

ولد حجاب خلال سنوات الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) في قرية المطرية التابعة لمحافظة الدقهلية، وهي قرية صغيرة اتسمت بالهدوء والصفاء. وقد اعتمد نشاط سكانها بشكل رئيسي على حِرفة صيد الأسماك وبيعها. ولم تكن تخلو رحلاتهم من الغناء، للقضاء على بطء الوقت والترويح عن أنفسهم. أما حجاب، فكانت نشأته في جنبات بيتٍ، اتسم بحب القراءة والمطالعة وخاصةً الشعر. فوالده كان شيخًا أزهريًّا، يمتلك مكتبة ضخمة تضم عشرات العناوين المتنوعة بين الأدب والتاريخ والأديان.

يقول حجاب في حوار له، ضمَّنه الكاتب إبراهيم خطَّاب في كتابه "سيد حجاب: صياد الحواديت": "كنت أرى في مكتبة والدي الكتب الدينية الإسلامية التي أرسلها يوسف (ميخائيل) مجلدةً ومكتوبًا عليها اسمه مثل: "محمد المثل الكامل" وغيرها، وكنت أرى الأناجيل في بيتنا منذ كنت صغيرًا ومن بينها إنجيل "برنابا"، وعندما كنت في السابعة كانت الكوليرا منتشرة، وكانت الأمهات يحبسن أبناءهن في البيت، فكانت فرصتي لالتهام مكتبة والدي، وكان والدي مشتركًا في مجلات المصور وكتاب الهلال ومجلة الهلال وغيرها، وكان البيت كله مصابًا بحب القراءة وعشق الكتب، أذكر أن والدي كان يقتص خمس ساعات من يومه للقراءة، تقلصت في آخر أيام حياته إلى ساعتين فقط. كانت فرصة جيدة لألتهم كل ما في المكتبة، أقرأ ما أفهمه وما لا أفهمه، "أجزاء من ألف ليلة وليلة" و"يتيمة الدهر للثعالبي" و"الأغاني للأصفهاني" و"خزانة الأدب للبغدادي" وعندما امتد بي العُمر، دهشت عندما عاودت قراءة هذه الكتب ووجدت كثيرًا منها باقيًّا في ذاكرتي".

لعبت النشأة المبكرة بين أحضان الكُتب ودواوين الشعر دورها في الثقافة الأدبية التي كونها حجاب في سنٍ مبكرة

لعبت هذه النشأة المبكرة بين أحضان الكُتب ودواوين الشعر دورها في الثقافة الأدبية التي كونها حجاب في سنٍ مبكرة. ثم جاء دور المعلم الثاني في حياته، وهو الأستاذ شحاتة سليم نصر مدرس الرسم والذي تحوَّل إلى الإشراف على الألعاب الرياضية بالمدرسة. وهو الذي يتذكره حجاب في الكتاب ذاته، بقوله: "فهو الأستاذ الذي أسمعنا لأول مرة الموسيقي الكلاسيك وبدأ يشرحها لنا، وكان يُطلعنا على كتب الفن التشكيلي ويشرح لنا ماهية الفن التشكيلي ومحاور اللوحة وعلاقات اللون والخط فيها بالفعل أضاء لنا عوالم كثيرة، وعندما قرأ قصائدي عاد لي بدرسين مهمين جدًّا، قال لي: "أنا قرأت شعرك، وأحببته، لكن لأني لا أعرف في الشعر (وهنا دهشت باعترافه، فكل الكبار دائمًا يعرفون كل شيء) سألت الأستاذ عبد الكافي أستاذ أول اللغة العربية فأكد لي أن شعرك موزون وسليم مئة في المئة، لكن أنا لي أنك تكتب عن عواطفك ومشاعرك الذاتية وهي في الأول والآخر تُعَدُّ على أصابع اليدين (زعلان، فرحان، بتحب، بتكره، بتهجر، بتترفض)، حاجات تتعد.. حتكتبها مرة تبقى جميلة حتكتبها تاني حتبقي أجمل، حتكتبها مرة تالثة حتبقي صنايعي".

ثم أشار عليه المدرس بالانغماس في عالم الصيادين والتشبع به، ليثري معجمه الشِعري وتأخذ أخيلته ومفرداته بُعدًّا جديدًا. وهكذا وجد حاله ذات يوم في رحلات الصيادين، ناسجًا أجمل أشعاره بعد أن أفادته قصص الكتَّاب الكبار أمثال: يوسف إدريس وعبد الرحمن الخميسي ويوسف الشاروني، فالحوار يُكتب بالعامية أما السرد فيُكتب بالفُصحى. كما أفادته مجلة "الرسالة الجديدة" في الاطلاع على التجارب الشعرية الجديدة لصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وآخرين. ثم بدأ في نسج قصائده على شاكلة "التفعيلة" و"الموالية". وذلك قبل أن ينتقل إلى الإسكندرية، ويبدأ في تكوين مكتبته الخاصة من حُر ماله، فكان أولى مقتنياته ديوان "أغاني إفريقيا" للشاعر محمد الفيتوري. وهكذا كان مناخ الإسكندرية الكوزموبوليتاني، نافذة جديدة له للانفتاح على أشعار صلاح جاهين وفؤاد حداد فيما بعد.

وفي القاهرة، أخذ صديقه مجدي مكاري بعض أشعاره وقدمها لبرنامج "كتابات جديدة" الإذاعي والذي كانت تقدمه الأستاذة سميرة الكيلاني في البرنامج العام. وكان تستضيف شيخ النقاد محمد مندور الذي أثنى على قصائده، قبل أن يرسل صديقه مجموعة جديدة من أشعاره إلى مجلة "الشهر" لسعد الدين وهبة. ومرت الأيام إلى أن استمع له الشاعر فؤاد قاعود في أحد المقاهي وليأخذه من يده إلى صلاح جاهين الذي آمن بموهبته الكبيرة. فلم يكن جاهين محبًا للشعراء الجدد فقط، بل داعمًا لهم أيضًا، فهو الذي أسس وأنفق على "دار ابن عروس"، لتكون بمثابة حاضنة لهؤلاء الشعراء الجدد وموهبتهم الكبيرة.

خرج ديوان حجاب الأول "صيَّاد وجنيَّة" في منتصف الستينيات إلى النور، لكنَّه لم يكن سعيدًا على الرغم من الحفاوة الكبيرة التي حظي بها من قبل النقَّاد والصحفيين، وبحسب خطَّاب في كتابه، فقد أطلقوا عليه "لوركا الشعر العربي" تارةً و"إيلوار الشعر العربي" تارةً أخرى، لكن حزنه كان عميقًا. فقد أدرك أنه ما كتبه من أشعار عن الصيَّادين البُسطاء في المطرية وغيرها لم يصل إليهم، كونهم لا يجيدوا القراءة أو الكتابة! ولعل هذا ما أكده في شهادة واضحة حول شعر العامية في مصر، أعدها للنشر الشاعر ماجد يوسف ونشرتها مجلة أدب ونقد (كانون الثاني/يناير 1987). ووصف فيها الثقافة في مرحلة الستينيات بقوله: "وحتى في تلك الستينات السعيدة! التي يرى فيها البعض جثتهم المفقودة ظلت الثقافة بعيدة عن التأثير في حياة الإنسان المصري، ذلك أنها لم تصبح جزءًا من نسيج الحياة اليومية، وبالرغم من كل الشعارات التي شاعت آنذاك وامتلأت بمفردات براقة مكللة بهالات من القداسة مثل: الشعب والعمال، والفلاحين، والاشتراكية، إلا أن السواد الأعظم من العمال والفلاحين الذين يشكلون الغالبية العظمى من شعبنا مازالوا يعانون من أمية القراءة والكتابة، كما أنهم ما زلوا أسرى أفكار وقيم لا تنتمي إلى عصرنا. صحيح أن السلطة القائمة آنذاك نشطت في إقامة المدارس، والمعاهد الفنية، والمسارح، والمجلات الثقافية، وتصور الثقافة، إلا أن هذا كله لم يفلح في نفي عزلة الثقافة والمثقفين. ولم تصبح الثقافة دمًا يسري في أعطاف النسيج الحي لحياتنا...".