01-أكتوبر-2015

المسلم النظيف/ عمل أدائي

لوحات جريئة بألوانٍ مرحة، تدل على تلاعب ماكر وذكاء فني تلك التي تقدمها سونيا ميرازكا (1975)، ذات الأصول الجزائرية، التي استقرت مؤخرًا في طنجة بعد ترحال طويل في العالم. ميرازكا تعمل، في إحدى زاويا "بوردر- أنديبدنت آرت فاتكوري"، بهدوء وأناة الصانعة على عدة مشاريع فنية، منفصلة في مضمونها، لكن تجمعها ثيمة واحدة هي "التناقض"، على أن تنجزها في كانون الأول/ديسمبر القادم، في معرض يشمل أعمالها التشكيلية والتركيبية والفوتوغرافية.

قامت سونيا ميرازكا، برفقة زوجها، برحلة بحث عن دولة ومجتمع أقل عدوانية وتطرف تجاه كونهم مسلمين

استوحت الفنانة معظم أعمالها والقضايا التي تتناولها من الرحلة التي قامت بها برفقة زوجها فيليب ميرازكا بحثًا عن دولة ومجتمع أقل عدوانية وتطرف تجاه كونهم مسلمين. وقد وجدت طنجة مكانها الملائم الذي ستطلق منه أعمالها الفنية الأولى، بعد أن تخلت عن عملها في الديكور الداخلي.

اقرأ/ي أيضًا: عثمان سلّامي.. الجسد كلمة السرّ

في رحلتهما، قطع الثنائي كل من تركيا وإيران والإمارات والهند وتايلند وماليزيا وأندونيسيا واليابان، ثم الولايات المتحدة وكندا، وصولًا إلى المغرب. أوضحت ميرازكا لـ"ألترا صوت" سبب مغادرتهم لفرنسا بأنها "رغبة تملكتها منذ سنوات طويلة سببها الرفض والنفور الذي يمارسه النظام الفرنسي ضد المنحدرين من أصول غير فرنسية بالأصل، وتحديدًا المسلمين، الأمر الذي خلق حالة من الشيزوفرنيا لديهم. وقد "ظل هذا الاشمئزاز والغضب والإحباط ينمو كالغرغرينا في جسدي ويأكل عقلي حتى قررت الرحيل". 

غادرت ميرازكا حيها الشعبي "بوريو" في باريس. الحي الذي يحظى مواطنوه بخدمات تعليمية أدنى من غيرهم، ما يجعل أحلامهم مجهضة. لم يرقّ ذلك لميرازكا، ما جعلها تبحث عن دولة بديلة ليست نموذجًا في الخدمات أو التكنولوجيا التي تقدمها لمواطنيها، بل دولة "نستطيع أن تمارس فيها عقائدنا الدينية دون أن نشعر على الدوام بالوصم والاضطهاد الذي تمارسه وسائل الإعلام ضدنا على أننا تجمعات سياسية شعبوية، والتي أفرزت بالنهاية تعقيدات الإسلام/فوبيا، ورفعت من شأن القومية الفرنسية بطريقة أفضت وعرت تناقض السياسة الفرنسية تجاه المسلمين داخل فرنسا وخارجها، وتعاملها مع قضايا الهجرة والحجاب الإسلامي وفقدان حقوق الإنسان والاعتقالات التعسفية، ثم حروبها المتعاقبة ضد ما يسمى محور الشر". 

ثم تتابع قائلةً: "نحن نطمح فقط موجودون ضمن بيئة تتناسب مع قيمنا، ومع كوننا أفرادًا من الطبقة الثانية. ولتحقيق ذلك اتخذنا نهجًا بديلًا لمغادرة فرنسا، نابع من إيماننا ووعينا الأخلاقي".

درست ميرازكا التصميم الداخلي عام 2009 في مدرسة "بول" الباريسية، لكن ثمة اختلافا فكريا جوهري طفا على السطح جعلها تدرك لاحقًا أن هذا التخصص يقع في خانة فن تحت الطلب من أجل الاستهلاك، ورغم أنه فن راقٍ وفق ما أوضحت الفنانة لكنه لا ينمّ عن إبداع صاحبه، ويصطدم الخيال فيه مباشرة بالواقع. ما دفع ميرازكا أن تغير الدفة وتشحذ أدواتها مجددًا بالفن التشكيلي لتكرس نفسها في خدمة فنّ الـArtivism (فن النشطاء السياسيين والاجتماعيين الذي تكمن أطروحته بأن يمسّ الناس ويدفعهم إلى التغيير) فـ"الفن الأيديولوجي" على حد تعبيرها يتطلب وقتًا وموقفًا وأسلوبًا ورؤية خاصة به.

تقدم ميرازكا فنًا ينتقد الظلم والنفاق الغربي ويقاوم ثقافة الاستهلاك

تقول: "لقد شعرت على الدوام بالروح الثورية بداخلي. فقد عملت خلال سن المراهقة مع عدة جمعيات على مختلف الجبهات، وهكذا ولد نشاطي". في 2001، أصبحت ميرازكا فنانة تشكيلية وأنجزت موادَ مختلفة، منها Artwork، وكتب للأطفال، وتصميم الأزياء، التصوير الفوتوغرافي. خلال العام نفسه، تقول: "أثار شيء عقلي وألهمني. بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر وإنشاء معتقل غوانتانامو، خطر لي أن artivism هو بمثابة استمرار منطقي وواضح لأفكاري والتزاماتي الإيديولوجية. عندها تحولت وركزت على اللوحة". 

اقرأ/ي أيضًا: منى حاطوم.. تكريس الهوامش والاضطراب

انخرطت ميرازكا في سياق الـ"artivism" إذ يتعين على الفنان خلق رأي خاص ومغاير لدى المتلقي، وأوضحت علاقتها مع هذا الفن: "لا أستطيع أن أصنع قطعًا جميلة لمجرد الجمال. بل فنًا ينتقد الظلم والنفاق الغربي ويقاوم ثقافة الاستهلاك، حيث شخصيًا لا أتفق مع ما يحدث بفرنسا. أريد تغيير الأمور، وفني هو السبيل الوحيد للقيام بذلك"، وتتابع: "أوحت لي رحلتنا بحزمة من القضايا أود التطرق إليها. قضايا تتجاوز الشخصانية، ولها ارتباط عميق وحميمي بما يحدث، ولكنها سوف تخضع أيضًا للتأمل الذاتي والمراجعة". 

تشتغل ميرازكا حاليا على بضعة مشاريع تنقسم وتتنوع ولكن تترابط بثيمتين أساسيتين التناقض والتلاعب. إذ نجد في مشروع اللوحات على إكليريك، و"فوتومونتاج" أنها ركزت على قضايا استوحتها من البلدان التي زارتها مسبقًا، وانشغلت بـ"الرمز" الذي يجعل المتلقي يفكر تلقائيًا ويربط ويحلل رموز اللوحة. 

ففي لوحتها التي تجمع الشاه الإيراني بالأمريكية كيم كارديشيان، تصور الفنانة نوستالجيا الإيرانيين إلى زمن الشاه الديكتاتوري ورفضهم للحكومة الإسلامية الحالية، ثم التلاعب الذي تؤديه السياسة الإيرانية مع أمريكا الظاهر من أسفل الهرم حتى رأسه، وقد اختزلته الفنانة بـ"كارديشيان" وهي تحمل عبوة "كوكاكولا". فهي من ناحية نموذج للإيرانيات في الجمال، خاصة تجميل الأنف، ومن ناحية أخرى تمثل العلامات الأمريكية التجارية التي تغزو الأسواق الطهرانية وقد دخلتها بعقود غير رسمية، وحتى الأسواق العربية الإسلامية عمومًا. 

أما اللوحة الأخرى، وهي أيضًا قيد العمل، تصور ميرازكا الخليج ونفطه وقد رمزت له بالملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، الملك الضخم، الشره الذي يتربع على عبودية الآسيويين الذين ساهموا في بناء مدن الخليج، وعلى الدولار الأمريكي الذي تضخه أمريكا لحماية مصالحها في المنطقة. فـ"التناقض" أو التلاعب الذي عززته باستخدام ألوان بادرة ومرحة وبشعار "القوة هي الجمال" الذي يحيل إلى درامية اللوحة إنّما يعكس رأي الفنانة بأن السياسة ليست إلّا "لعبة" تختبئ وراء مفاهيم الديمقراطية والحرية، ولا بديل عن رأس المال الذي يتحكم بعلاقات ومصالح الدول مهما كانت مرجعيتها.

الفنانة التي ألهمتها أيضًا ثورات الربيع العربي، سوف تتضمن مجموعة لوحاتها تشكيلًا يخص الرئيس الأمريكي باراك أوباما كرمز لزيف الديمقراطية الأمريكية، وأخرى تتحدث عن نفاق النباتيين "المواكبين للموضة"، ولوحة من شرق آسيا، تشي بتبدل القناعات الدينية لدى البوذيين الزاهدين، ولكن زهدهم لا يحول دون بناء معابد من ذهب أو استخدام التكنولوجيا الحديثة للترفه بالحياة.

فقدت فلسطين في الآونة الأخيرة كثيرًا من الدعم والمساندة

إلى جانب التشكيل، تحضر الأعمال التركيبية أيضًا. أحدها نصبت فيه الفنانة وجها بقناع مقابل كتاب يدل على إيديولوجية ما، وأوضحت لـ"ألترا صوت" أن "الناس عادة ما تتبع الإيديولوجيات النابعة من الدين أو المواثيق وغيرها، ولكن معظمهم منافقين ومراوغين، يفتقدون للصدق أو المبادئ التي توصي بها تلك الايديولوجيات". 

وتركيب آخر، سوف يجمع بين سجادة الصلاة بجانبها قنينة كحول. أما مشروع "المسلم النظيف" فهو عبارة عن صور فوتوغرافية وفيديو أدائي استوحته من البلاد الإسلامية التي زارتها ميرازكا ووجدت أن النظافة والحفاظ على البيئة لا يشكلان أولوية بشكل يتنافى مع المبادئ الدينية للفرد المسلم، تقول ميرازكا: "تشي هذه الحالة بأننا لا ننتمي للأرض. أعتقد أن التعليم هو الحل لمشكلة النظافة، ويجب أن نبدأ بمعالجتها قريبًا قبل وقوع نتائج كارثية. بالرجوع إلى الحديث القائل بأن "النظافة من الإيمان". وقد اختارت اللونين الأبيض والأسود تعبيرًا عن "جمال القذارة" في صورها المتناولة وحتى عن ظلامية الموقف. 

اقرأ/ي أيضًا: منذر جوابرة.. عودة إلى دفتر الانتفاضة

ويندرج ضمن مشاريعها العدوان الأخير على غزة 2014. حيث تناولت فيه الوجع النفسي الذي سببه العدوان لأطفال القطاع. واختارت الفنانة دمية بملابس جديدة وجميلة لتصور حالة هؤلاء الأطفال، وأظهرت جروحًا وكدمات على وجهها وأطرافها، تقول: "أردت تكريم أطفال غزة إضافة إلى محمد خضير الذي أحرقه المستوطنون. فلسطين مهمة، وسوف تبقى القضية الكبرى والمركزية ويستحيل أن نكون حياديين تجاهها. ليست هذه المرة الأولى التي أهتم بها بفلسطين، فقد كانت صورة محمد الدرة أيضًا محط اهتمام واشتغال بالنسبة لي، فالصراع الحاصل بين الفلسطيني والإسرائيلي ليس لحظيًّا بل يوميًا، وما نستطيع فعله كفنانين تجاه ذلك أن نقول ونعمل ما نفكر. لقد فقدت فلسطين في الآونة الأخيرة كثيرًا من الدعم والمساندة".

من بين أعمالها السابقة التي نالت شهرة على نطاق فرنسا كان فيلم الأداء الفني القصير "امرأة في صندوق" الذي طرحت فيه سؤالًا حول نظرة المجتمع الفرنسي تجاه المرأة المحجبة، وعن عواقب القوانين المخصصة لها تحديدًا وتأثيرها على حياتها. وهل يفهم الفرنسيون حقًا الغضب والمخاوف المترتبة على ذلك؟ تقول: "أردت تنبيه الجمهور أن الحجاب ليس مانعًا لحرية المرأة المسلمة، بل المجتمع والحبس الممأسس الذي يفرضه والعنف الذي يمارس ضدهن. النساء المحجبات لا يمكنهن العمل ولا الدراسة في بلد يدّعي أنه في طليعة الحركة النسوية وحقوق الإنسان".

هكذا نجد أن الفنانة تسقط مفهوم التلاعب manipulation السياسي والاجتماعي ووهم الديمقراطية على معظم أعمالها التي تصور خداعنا لأنفسنا بأننا أحرار، ولكن في الحقيقة ليست كذلك.  فهي تمنحنا أدوات جديدة من شأنها أن تغير طريقة تفكيرنا واستيعابنا للقضايا، وهنا ينبغي علينا أن ندرك الواقع بطريقة غير مألوفة، تهكمية أحيانًا، وصريحة مباشرة أحيانًا أخرى.

عبر سلسلة أعمالها، تخلط ميرازكا بين المواد والتقنيات من طراز الكولاج والرسم والتصوير الفوتوغرافي. على اعتبار أن الخلط نوع من الاستمرار لهويتها العربية الجزائرية والبربرية، فميرازكا التي عاشت في ضواحي باريس تحارب خوفها من تغير العالم الذي تتحول فيه الإيديولوجيات وتتوجه وفق الإعلام والسياسات، تحاول بأدواتها أن تغير بعض الصور النمطية، خاصة تلك التي نمت بفرنسا، وتقول لـ"ألترا صوت": "نحن نعيش في مرحلة يسودها التطرف، والتسامح هو التحدي الوحيد الذي يواجهنا لأجل حلّ هذه المعضلة".