08-سبتمبر-2021

الكاتبة سومانا روي

نشر في الموقع الإلكتروني لمجلة "ذي باريس رفيو" في 30 أغسطس 2021 مقطعًا من كتاب حديث الصدور من مطبعة جامعة ييل عنوانه "كيف أصبحت شجرة" (How I Became a Tree) للكاتبة سومانا روي، أستاذ مساعد اللغة الإنجليزية والكتابة الإبداعية بجامعة آشكوكا في هاريانا بالهند، التي سبق لها أن نشرت "فقد"  (Missing)و"خارج المنهج" (Out of Syllabus) و"عشيق أمي وقصص أخرى" (My Mother’s Lover and Other Stories).


في البدء كانت الملابس الداخلية. أردت أن أصبح شجرة لأن الأشجار لا تلبس حمالات الصدر.

ثم كان على الأمر أن يتعلق بشبح العنف. أحببت طريقة الشجر في التعامل مع العتمة والوحشة بينما كان غياب الشمس يفرض عليَّ أنا حظرًا للتجوال. أعجبني أيضًا أن الأشجار تعيش وتزدهر على أشياء لم تزل متاحة ومجانية ـ أعني الماء والهواء وضوء الشمس، دونما رهن عقاري على الرغم من احتلالها الأرض على مدى أعمارها.

بدأت خيالاتي الأولية حول الأشجار تتلاقى حينما بلغت منتصف العمر وبدأت أفاضل بين منافع حياة العمل المستقل وحياة الوظيفة ذات الراتب الثابت. وإذا بخاطر يلتف عليَّ التفاف اللبلاب: هل تعيش الأشجار حياة العمل المستقل أم حياة الوظيفة ثابتة الأجر؟ الشجرة عاملة باليومية، حياتها في العمل مربوطة بدورة ضوء الشمس. أما الإجازات القصيرة، والطويلة، والعطلات الأسبوعية، والحياة مدفوعة الراتب، والمعاشات، والقروض، فكل هذه اختراعات حديثة، لا تعدو عزاءات تقدَّم للموظفين من أمثالي.

وهكذا، حينما أرجع النظر إلى أسباب سخطي على كوني إنسانًا، ورغبتي في أن أصبح شجرة، يمكنني أن أرى في جذورها في الإحساس بأن جرافات الزمن قد دهستني. وفيما مضيت أنزع الساعة عن معصمي، وأنزعها عن الجدران، أدركت أن جميع عيوبي ـ التي أكتشف الآن أنها مشاع بيني وبين الكثيرين من حولي ـ إنما تنبع من فشلي في أن أكون عبدة طيعة للزمن. بدأت أحسد الشجر، وعصيانه للزمن البشري. كان المقاولون من حولي أنَّى نظرت يبعثون أساطيل عمالهم لإقامة ناطحات سحاب وفقا لجداول زمنية مضغوطة، ويضايقهم الشجر الذي يزرعونه داخل المجمعات السكنية المسوَّرة، فلم يكن الشجر ينمو إلا بوتيرته الطبيعية، إذ يستحيل استعجال النباتات، ويستحيل أن تؤمر الأشجار بـ"الإسراع". في حسد، وإعجاب، وطموح، أخذت أطلق على تلك الوتيرة "زمن الشجر". (أكان ذلك هو الذي أراد سلفادور دالي أن يشير إليه حينما وضع في لوحاته الكثير من ساعاته الذائبة على الشجر؟).

تعبت من السرعة. أردت أن أعيش وفق زمن الشجر. وكان هذا الشعور ينتابني فيكون أشد إيلامًا لي عند إشرافي على قاعة الامتحانات إذ أراقب وجوه طلبتي المنهكة وهم مضطرون إلى تكثيف عام كامل في سويعات قلائل، وإيجاز ما اكتسبوه من تعليم في مختلف أوقات اليوم ومختلف الأماكن فيكدسوه في سويعات قليلة من الكتابة. وبتلك الطريقة يجتاز أحدهم الامتحانات، ويحصل على الدرجة العلمية والوظيفة، وبها يقاس النجاح. بينما لم تسهر شجرة الليل كله لتصبح في الصباح التالي ممتحنة جيدة، فذلك شيء لا تفعله حياة النبات، على تنوع أشكال أزهاره وثماره الموسمية، وليس بوسعها أصلا أن تفعله. ومثلما لا يستطيع امرؤ أن يعدل وقت التثاؤب، فليس بوسع أحد التلاعب بزمن الشجر.

بدأت بالتخلي عن الصحف، وقنوات التليفزيون الإخبارية، ومقدمي الأخبار. فتلك الكبسولات الممتلئة بالزمن المضغوط المبرز باتت تقسم انتباهنا، وتقسم حياتنا إلى طلقات. أما النباتات فما هي بصانع أخبار لأنها لا تستطيع أن تتسبب في انقلابات أو حروب. وما هي بمستهلكة للأخبار لأن دنياها لا تتأثر بتغيرات الحكومات ونتائج مباريات الكريكيت. وباستثناء حالة الجو ـ لا النشرة الجوية فهذه سلعة يبيعها التليفزيون ـ لا تبالي دنيا النباتات بأي حدث، من صنع إنسان أو طبيعة، بعيد عن مسرح حياتها المحلي الصغير. كان العمل اليومي يخدِّرني، ويعجزني عن التعامل مع البشر، وما يخصهم من أوامر تلو أوامر. فالكلام، ذلك التتابع المتصل من الكلمة تلو الكلمة بفحوى ما يجري، ذلك الشيء الحتمي دائم الجريان على ألسن البشر في البر والجو وتحت الماء، بات يثير في نفسي هلعًا مرضيًا يصعب تفسيره، فأنا ابنة رجل يدمن الأخبار، يشاهد الخبر الواحد على قناة دوردارشان الحكومية بالبنغالية والهندية ثم بالأردية، وجدت نفسي في عالم يتحول فيه المرء بكونه مخزن أخبار ـ مكدسة كالبرقيات ـ إلى ما يشبه الناشط السياسي. وكل الأخبار المهمة طبعا توشك أن تكون أخبارًا سيئة على وجه الحصر. لقد أحال وقع هذه الطاقة العصبية العالم إلى فيلم من أفلام نهاية العالم، وبات هو الروح المقيمة في غرفة الأخبار ـ ذلك الإحساس بأننا جميعًا ملعونون، وأننا جميعًا ماضون إلى نهاية مريعة، وأننا جميعًا جزء من الأخبار.

باتت الجريدة هي الكتاب المقدس الجديد وقارئ نشرة الأخبار هو القس. أصابني إيقاع الأخبار المنافي للطبيعة، والوتيرة اللاهثة التي تتحرك بها الأخبار، بالاختناق، لم أعقد أقوى على التنفس. أردت أن أخرج، من الأخبار، ومن الحي. ومن هنا كان انجذابي إلى الشجرة وكمال لامبالاتها بتنويم الأخبار المغنطيسي.

عندي يقين بأن البشر والشجر كانا في يوم من الأيام يتحركون بإيقاع واحد، ويعيشون حياتيهما في زمن واحد. ولكي أحظى باستيعاب هذا المفهوم الذي لا وجود له، بطبيعة الحال، إلا في خيالي، بدأت أزرع الشتلات علامات على الولادات والبدايات. فلما ولد ابن أخي على سبيل المثال قبل خمس سنين زرعت شجرة نيم في فنائنا الخلفي. يبلغ الولد الصغير الآن ثلاثة أقدام أو نحو ذلك. أما شجرة النيم فأطول من زوجي البالغ من الطول ستة أقدام. لكن قبل هذه كانت الشجرة البالغة من العمر مثل عمر زواجي، وهذه لم أزرعها، بل زرعتها البلدية، ضمن مشروعها لتخضير المدينة. كانت محض مصادفة سعيدة إذن أن زرعت شجرة الجلموهار، بزهورها الصفر، قبل أيام قليلة من زفافي، وفي المقابل تمامًا من الغرفة التي كان منتظرًا أن تبدأ فيها حياتي الزوجية، وهي الآن أعلى من بيتنا بطوابقه الثلاث، وتتيح لي أن أتخيل نسخة أخرى من زواجي، أراه فيها شجرة، أو حياة كان يمكن أن أعيشها لو سمحت لنفسي أن أعيش وفق زمن الشجر.

تتحالف مع الأفكار البشرية الخاصة بالزمن تفرقة طاغية على أساس السن.  فكثيرًا ما يقول لي الناس إنني أبدو أصغر من سني ـ وأحجم عن وصف ذلك بالمجاملة لأنني لا أستطيع أن أرى "سيماء الشباب" نوعًا من الثناء. أجد هذه الكلمات مهينة ومنطوية على تمييز: أليس ثمة جمال في كل مرحلة عمرية ـ من الشيخوخة إلى منتصف العمر إلى ما بينهما من تنويعات كثيرة تأتي على سبيل الوصف والنقد؟ حدث ذات صباح حينما تلقيت "مجاملة" من هذا النوع أن وجدت نفسي مدفوعة إلى التساؤل عن رد الفعل المحتمل من شجرة. لو كنت شجرة في الأربعين من العمر، أما كنت لأشعر بالإهانة إذ أعد في العشرين بناء على مظهري؟ كنت على يقين من أن العمر مهم للشجر. لقد أصبحت غضون الوجوه والرقاب، وتراكم الطيات على الأوراك والأفخاذ تصيب البشر بالحرج. وعمر الشجر يعرف من خطوط مماثلة، دوائر تكشف السنوات المعيشة في محيط الزمن الذي منح الشجر المسن نوعًا من الكرامة الرزينة. إن المرء يرى عند النظر إلى الشجر أن الزمن كائن بدين. وأن التاريخ، سواء انعكس في الخطوط أم في الطيات، في اللحاء المتهدل أم البشرة المتهدلة، في الألوان الجديدة أم الصبغات، شيء جميل. لقد جعلنا العيش في العصر الصناعي جيرانًا على نحو غريب للآلات، نفكر في التقدم في العمر باعتباره شيئًا قبيحًا قبحَ الآلات إذ تصدأ، وتتعطل، وتقبح قبل أن تفكَّك.

لكن كيف لامرئ أن يعيش بزمن الشجر في هذا العالم المقيد بمواعيد النهائية لكل شيء؟ بدأت أحاول تفكيك معمار وحدات الزمن داخل رأسي. ولم يكن ذلك الجهد واعيًا كله، ولكن كامل طريقتنا في احترام الزمن تغدو سخيفة حينما يطرح المرء على شجرة السؤال الذي تستهل به استمارات الطلبات الوظيفية والأحاديث: "متى عيد ميلادك؟" حذفت المعلومات المتعلقة بعيد ميلادي من فيسبوك مثلًا، وصرت أندهش حينما يسألني الناس عن تاريخ ميلادي. كما أنني صرت لا أفهم السر الذي يجعل ثقافتنا، على المستويين الاجتماعي والبيروقراطي، تولي كل هذا الاهتمام لتاريخ وصول المرء إلى العالم. لم أكن أعرف أحدًا يحتفل بأعياد ميلاد الشجر. بدا لي أيضا من الصعب تصور شجر يحتفل بالذكرى السنوية للوفاة. أما ذكرى الزواج السنوية فتبدو طرفة في ضوء عدد "الزيجات" الذي تمر به شجرة على مدار عمرها. فماذا يكون زمن الشجر بالضبط؟ مضيت أهيم دونما غاية وسط النقاشات الفلسفية للزمن إلى أن خطر لي ذات ليلة، في نومي: اغتنام اللحظة، عيش الحاضر، ذلك هو زمن الشجرة، حياة بلا مخاوف من المستقبل أو أسف على الماضي. هناك ضوء الشمس، فانهلي، وابتلعي، وكلي، وهناك الليل: فاستريحي. وبدأت أكتب هذا وفق زمن الشجر، فأسجل الأفكار وقت وصولها، والأحداث عند وقوعها، وأحارب الأرق وما ينشق عنه من شِعر محاربة شجرة جيدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أبي الحاضر الغائب.. أبي الغائب الحاضر

نصائح فسوافا شمبورسكا: حاول أن تحملق من الشباك في يأس