09-فبراير-2018

فقر وإهمال في مدينة الرئيس المبجلة (الترا صوت)

كانت تلمسان آخر نقطة وصل إليها العثمانيون في شمال أفريقيا، 1515. قبلهم كانت عاصمة للدّولة الزّيانية ذات الأصول الأمازيغية، 1235، وإحدى الحواضر التي شكّلت مقصدًا للعائلات الأندلسية بعد سقوط غرناطة عام 1492. أقام فيها الأمير عبد القادر فترة معتبرة بعد تشكيل مقاومته عام 1832، قبل أن تسقط في أيدي الفرنسيين عام 1847 بموجب "معاهدة التّافنة".

استقرّت تلمسان في أذهان الجزائريين بصفتها مدينة رئاسية بالنظر إلى انحدار عديد الشخصيات المؤثرة منها ومنهم الرئيس بوتفليقة ولذلك حظيت دائمًا باهتمام خاص

شكّلت تلمسان منارة علمية وفكرية ودينية وروحية في المغرب الإسلامي، طيلة هيمنة الدّول التي حكمتها، الدّولة الأموية ودولة بني يفرن ودولة الأدارسة ودولة الفاطميين ودولة المرابطين ودولة الموحدين ودولة الزيانيين. ومن أشهر الشّخصيات التي أقامت فيها عبد الرحمن بن خلدون، 1332 ـ 1406، ولا تزال مدرسته قائمة حتى اليوم في أعالي المدينة، إذ أصبحت مقرًّا للمركز الوطني للمخطوطات.

استقرّت تلمسان في أذهان الجزائريين، بعد الاستقلال الوطني، 1962، بصفتها مدينة رئاسية، بالنظر إلى انحدار نخبة من الشّخصيات المؤثرة منها، مثل زعيم الحركة الوطنية التي مهدت لثورة التّحرير قبل أن تنشقّ عنها مصالي الحاج وأول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة والرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة ورئيس مجلس الأمة عبد القادر بن صالح ورئيس المجلس الدستوري مراد مدلسي ووزير العدل طيّب لوح والمدير العام للأمن الوطني عبد الغني هامل.

من هنا، يغيب عن الأذهان وجود أحياء فقيرة وتجمّعات سكنية تعاني الإهمال وتعيش على الهامش في تلمسان، وتصبح دهشة الجزائريين كبيرة حين تطفو هذه الحقيقة إلى السّطح من حين لآخر. ينطبق الأمر تمامًا على سوق باب سيّدي بومدين المنسوب إلى الوليّ الصّالح أبي مدين شعيب، الذي ولد في الأندلس عام 1126 ودفن في تلمسان عام 1198، ولا يزال ضريحه في صدارة معالمها.

اقرأ/ي أيضًا: فقراء في الجنوب الجزائري الغني بالنفط!

في العادة، تحتلّ الأسواق الفقيرة في المدن الغنيّة أطرافها، بحيث تبدو فضاء مستقلّا عنها. غير أن سوق باب سيّدي بومدين يشكّل قلب المدينة، بحيث تؤدّي كلّ الدّروب إليه، إذ يسمّى الشّارع في تلمسان دربًا تماشيًا مع العادة السّارية في الفضاء المغربي البعيد بحوالي ستّين كيلومترًا. درب متفرّع عن السّاحة التي تضمّ قلعة "المشور"، التي كانت مقر حكم الملوك الزّيانيين. وهو المعطى الذي جعل شيخًا عاين دهشتنا من الفرق بين البقعتين يقول: "من القصر للقبر"، وكم كان محقًّا في وصفه.

أكثر الظواهر إثارة لانتباه الدّاخل إلى السّوق، كونه يوجد فوق قمامة لم ترفع منذ شهور، فهي تتراكم يوميًا، إذ يترك الباعة بقاياهم في عين المكان. وكون ما يبيعونه أغراضًا قديمة حتى وإن بيعت، فهي لا تكفي لأكل "حريرة" في درب سيدي حامد المجاور. بضعة إبر خياطة مستعملة، مصفاة قهوة، حذاء ممزّق. زوج جوارب، غطاء هاتف نقّال، هاتف نقّال من الجيل الأوّل، قِدْر مسودّة، صحن حديدي، سروال تعاقبت عليه الفصول، بطّاريات مذياع. وسأتوقّف هنا، لأفسح المجال للعمّ مبروك، 58 عامًا، كي يذكر جدوى هذه الأغراض.

يقول العمّ مبروك لـ"الترا صوت" إنّ زبائن سوق باب سيدي بومدين من نفس طبقة باعته، "فنحن نبيع لبعض ونشتري من بعض تضامنًا، حتى نحصّل قوت يومنا لا غير، إذ ليس في السّوق من يطمح إلى أكثر من ذلك. لك أن تبقى هنا أسبوعًا كاملًا فلن تلاحظ عراكًا بين النّاس، لأنهم يتعاملون مع السّوق على أنه بديل لأسرهم التي حرموا منها. تعرف المثل الشّعبي القائل: "حشيشة طالبة معيشة؟"، كأنّ من قاله في الأصل فعل ذلك بعد أن دخل هذا السّوق". يسأل: "لا ننتبه إلى أغنياء المدينة لأننا لا ننتظر منهم شيئًا، وهم لا ينتبهون إلينا أو يؤذوننا، لأنهم يتفادون وجودنا بالتّجاهل، فهم غير مصدّقين أن مدينتهم الرّاقية تتوفّر على بشر مثلنا".

يستقر سوق باب سيدي بومدين، وهو سوق للأغراض القديمة، فوق قمامة لم ترفع منذ شهور في تلمسان وهو يعكس تفاوتًا طبقيًا واضحًا في المدينة

اقرأ/ي أيضًا: "أسواق البطالين" في الجزائر.. عبقرية الحاجة

نكاد نكون مجتمعًا مستقلًّا عن مجتمع المدينة، يقول العمّ مبروك، فنحن نعتمد على أنفسنا في كلّ شيء. هل أدهشك هذا الذي يبيع هذه الإبر؟ إننا نستعملها في خياطة ثيابنا، فمعظمنا عازب أو مطلّق أو أرمل أو مطرود من البيت، ونستعمل مصفاة القهوة التقليدية في إعداد قهوتنا مساء في الجحور التي نقيم فيها، ونرقّع الحذاء الممزّق، فيصبح صالحًا للمشي، ذلك أننا لا نلبس الحذاء للتأنّق بل للمشي، وزوج الجوارب للوقاية من البرد، لو أتيح لك أن تعاين أقدام الكثيرين هنا، فستجدها مصابة بتقرحات كثيرة نتيجة العدوى، والهاتف النقّال "الحطبة"، هكذا يسمّى الهاتف غير الذكي في الجزائر، في التواصل مع بعض، وبطاريات المذياع في الاستماع إلى الموسيقى ونشرات الأخبار، فنحن لا نحظى بمشاهدة التلفزيون إلا في الأوقات التي نقضيها في المقهى.

من سلوكات السّوق الدّاعية إلى الدّهشة أيضًا أن أحدهم يمكث ساعات واقفًا وعارضًا سلعته، ثمّ فجأة يتخلّى عنها في البقعة نفسها، فتنضمّ إلى محتويات القمامة، التي تحتلّ ثلثي المكان، وتأتي زجاجات البيرة والنّبيذ في مقدّمة مكوّنات القمامة. يقول الشّاب عماد، 31 عامًا، إنه لا يشرب أمام النّاس، "لكن ما إن يحلّ الظلام حتى أعود إلى السّوق وأغرق في زجاجتي". يشرح وضعه: "أتفادى انفجار رأسي من المشاكل والحرمان بالشّرب".

سألنا عماد الذي كان محاسبًا في مؤسسة تربوية، قبل أن يُطرد بسبب ما أسماها مؤامرة، عن مدى تفهمه لواقعه في مدينة ينحدر منها رئيس الجمهورية نفسه والكثير من أعيان البلاد، فقال: "أعلم أنّ أمثالي موجودون حتى في أمريكا، لكنهم ضحايا نظام ليبرالي متوحش، فما سبب وضعي في دولة تصف نفسها بالاجتماعية؟".

عدنا إلى السّوق ليلًا، لاحظنا أنه أكثر فضاءات المدينة ظلامًا، "وأراه وضعًا متعمّدًا حتى يبقى السّوق حقيقة مستورة لأنه يحرج أكثر من طرف"، يقول المسرحي علي عبدون لـ"الترا صوت". يضيف: "إنه فضاء لم يعانِ التّهميش من السّلطات فقط، بل من الفنّانين أيضًا، إذ لم يستطع أن يدخل رغم ما يملك من حكايات ومعاناة إنسانية إلى الفنّ الرّوائي والسّينمائي والمسرحي". ويختم: "يتفوّق المجتمع المخملي في تلمسان على هؤلاء ماليًا وعمرانيًا وتعليميًا، لكن من أراد أن يأخذ الدّرس الإنساني الحقيقي، فليأتِ إلى سوق باب سيّدي بومدين".

 

اقرأ/ي أيضًا:  

عاملات النظافة في الجزائر.. سلالم الأوجاع

الطرق الصوفية.. محل استغلال سياسي جزائريًا