19-يوليو-2022
أبلادي غلوفر/ غانا

لوحة لـ أبلادي غلوفر/ غانا

الحق الذي لا يستند إلى قوة تحميه باطلٌ في شرع السياسة

  • أرنستو تشي جيفارا

 

كان الملا إسماعيل لا يزال مستلقيًا على مرتبته القطنية حين أيقظه تنامي اللغط في الخارج، وقد دلته برودة البكور أن الشمس قد أشرقت أو تكاد، مد يده إلى ساعة الجيب الخاصة به تحت الوسادة، رفع غطاءها المعدني ثم الزجاجي، تلمس بحذر شديد عقاربها المتحركة، كانت تشير إلى الخامسة والنصف، تحامل على نفسه وقام واقفًا، تلمس الجدار بكفيه ليصل إلى الكوة الصغيرة في غرفته المطلة على الساحة، وهناك أحس بدفء الشمس يغمر وجهه، أصوات كثيرة كانت تضج بها ساحة القرية وقد باتت أكثر ارتفاعًا ووضوحًا خلال كوته تلك، أصوات الرجال كانت مزمجرة هادرة، وأصوات نسوة تعملن جاهدات على امتصاص سَورة الغاضبين، كان الملا إسماعيل يسمع أصوات الجميع من كوته الصغيرة، وكان من السهل عليه أن يميز صاحب كل صوت، كان صوت شيركو يطغى على كل الأصوات:

- هذه هي المرة الثانية خلال شهرين التي يقطعون فيها مجرى الماء عن مزروعاتنا وحقولنا.. إلى متى سنحتمل ذلك من أهالي قرية كربازار؟

صرخ حمزو:

- مزروعاتنا باتت صفراء، خضرواتنا ذبلت والجفاف نال منها.

بلهجة لا تقل غضبًا عقب سيدو:

- طبعًا طبعًا هذا لا يحتمل، خاصة وأن صوفي مادو يؤكد أن شتلات الطماطم والفاصوليا بدأت تذبل وتتساقط أزهارها، بل هو يقسم انها سوف تموت حتما مع ضحى الغد..

تدخلت أم ريزان قائلة بلهجة يغلب عليها الرجاء:

- فقط أنا أقول لو يذهب المختار إلى قرية كربازار مع ملا عبد القادر واثنين آخرين و..

 ضاع صوت أم ريزان مع ارتفاع أصوت الشتائم والتهديد، صوت ما صرخ باستنكار

- حتى لو كانوا أكثر منا عددًا، يجب أن يكفوا عن الاستهانة بنا.

 فجأة علا صوت أجش هادر مليء بالتهديد والوعيد، كان صوت أبو بنكين وهو يقول:

- أقسم.. أنني سوف أقتل من يقطع الماء عن حقلي.. نعم سوف أقتله.

 كانت نبرة أبو بنكين جادة ومخيفة، وأدرك الجميع أن أبو بنكين يعني تمامًا ما يقول. وخيم بعد ذلك صمت حذر وثقيل، ثم سرت همهمات غير واضحة بين الجموع، صوت ما قال بحزم:

- سوف آتي بفأسي

صوت آخر قال:

- أنا أيضًا سوف آتي برفشي..

 ابتعد الملا إسماعيل عن الكوة، وبقدمه الحافية بحث عن مداسه البلاستيكي المركون في زاوية غرفته، ثم انحنى بصعوبة ليتناول عصاته الزان الملقاة بجانب مرتبته، واتجه نحو الستارة التي تغطي مدخل غرفته، كان مرتبكًا حائرًا لا يعلم ما الذي يمكن أن يفعله في هذا الذي يحدث، قال لنفسه.. علام هو في عجلة من أمره، هل هو يريد حقًا أن يوقفهم ويحول بينهم وبين أن يواجهوا أهالي قرية كربازار، وهل لديه خيار آخر يقدمه لهم؟ أليس ما ينتوونه هو الحل الصحيح والوحيد المتاح أمامهم؟

تعثر مرتين قبل أن يصل إلى غرفة المعيشة، ومنها إلى الباب الخشبي الكبير، وأدرك أنه أصبح يطل على الساحة الواسعة التي سبق أن تجمهر فيها الناس، باستثناء لغط بعض الأطفال وهمهماتهم ما من نأمة أو حركة أخرى تصدر عن أي مكان، تمتم الملا إسماعيل:

- أي جنون.. أي جنون، هل يعقل أن يكونوا قد غادروا جميعًا؟

صرخ بأعلى صوته:

 - هيه.. أما من أحد هنا، مزكين مزكين.. أين أنت يا ابنتي؟

 وحده (ولا أحد غيره) كان يمكن أن يميز خشخشة شحاطة مزكين وهي تجري بقدمها الصغيرة على الأرض الرملية، احتضنت ركبته وهي تقول لاهثة:

 - لقد ذهبوا يا جدي.. الجميع ذهب، بعضهم سوف يرجع بعد قليل، كانوا غاضبين جدًا، يا إلهي كم كنت خائفة يا جدي، كنت مختبئة خلف تنور الخالة نازي. ماذا تظن أنه سيحدث بعدُ يا جدي؟

 ربت على رأسها مواسيًا ومهدئًا من روعها ثم قال:

 - لا عليك يا ابنتي لا عليك، خذيني إلى النهر، فقط خذيني هناك.

رددت الصغيرة الكلمة مشدوهة وهي تنظر إلى جدها:

 - النهر؟ لماذا النهر يا جدي!! ما من أحد هناك!!

*

 

 كان الملا اسماعيل واقفًا مطلًا على النهر بطوله الفارع، وسرواله الفضفاض، حين قال:

- كلميني عن النهر يا ابنتي.. صفي لي ماءه..

استند على عصاه بكلتا يديه، وبوجه جامد لا يكاد يفصح عن أي تعبير وقف مصغيًا بكليته إلى ما تقوله مزكين:

- لا يزال النهر على حاله منذ قدومنا يا جدي، المياه ضحلة، وبعض الأسماك الصغيرة جدا تتقافز في ماء عكر.

 بعد قليل صرخت مزكين:

- هيه جدي.. دفعة ماء قوية كما الموجة اجتاحت النهر! ولكنها موجة سوداء محملة بالطين.

 هز الملا إسماعيل رأسه وقال بهدوء:

- لا بأس يا ابنتي.. لا بأس، سوف تصفو.

 بعد انتظار قصير تابعت مزكين:

- زادت المياه قليلا يا جدي، ولكنها لا تزال بنية داكنة.

 ظل وجه الملا إسماعيل ميمما نحو أفق بعيد، كمن يستشف ما وراء الأفق وظل يكرر بثبات:

- سوف تصفو، سوف تصفو.

 صرخت مزكين بدهشة:

- جدي جدي.. زادت المياه، ولكنها تحمل معها مِزقًا من ثياب وقِطعًا لعصيٍ مكسورة!

 ظل الملا إسماعيل يردد بهدوء:

- سوف تصفو، سوف تصفو.

 بصوت منخفض تغلب عليه الحيرة قالت مزكين:

- جدي جدي.. لون أحمر يخالط المياه، هي خطوط حمراء قانية..

 تخلت يد الملا إسماعيل اليمنى عن عصاته، وامتدت نحو لحيته البيضاء الكثة، وتخللها بأصابعه الطويلة وهو يردد:

- سوف تصفو، سوف تصفو.

 صوت مزكين صار أقل انفعالًا، وأكثر هدوءًا:

- المياه صار لونها بنيًا فاتحًا يا جدي، وصارت تنساب بهدوء.

مرت لحظات صمت مثقلة بالانتظار قبل أن يسمع الملا إسماعيل أقدام مزكين تتقافز على الأرض كما لو كانت ترقص، ضحكت وصرخت بصوت عالٍ:

- هيه هيه، لقد صفت المياه يا جدي، المياه صارت صافية تمامًا، صافية تمامًا.

 هز الملا إسماعيل رأسه، شد قامته، رفع رأسه، ثم أدار ظهره ببطء للنهر مادا يده نحو مزكين وهو يقول:

- نعم نعم.. صافية تمامًا، خذي بيدي ولنعد إلى القرية يا ابنتي، لنعد ونتبين كم كلفنا ذلك.