30-مارس-2016

لاجئة سورية في اليونان (Getty)

1

وصلنا بلغراد في الرابعة والنصف فجرًا وتوقفت السيارة التي كان يقودها سائق صربي على باب الكامب، أخرجنا السيمات المقدونية من الموبايلات وتوجهنا نحو مكتب التسجيل على بعد أمتار لنتفاجأ برتلٍ طويل من الجاثمين على الأرض ملتفين في بطانيات في انتظار الموظفين الذين فهمنا أنهم لن يأتوا قبل التاسعة، وأنهم لن يسجلّوا سوى عدد محدود لذلك بدأنا على الفور نسأل عن اسمٍ أوصينا به بينما كنا لا نزال في أثينا.

في كامبات أوروبا الشرقية، يشك أغلب اللاجئين أنها أقيمت باتفاق بين الدولة والمافيا لتسهيل العبور

2

الكامبات في صربيا كما في إيطاليا، كبلدَيْ عبور، لا تقدّم سوى سرير ووجبات الطعام لأيام معدودة تلتقي خلالها بالمهربين، بالسماسرة والوشيشة إلى الدرجة التي يشك بها أغلب اللاجئين أنها لم تقم إلا باتفاق بين الدولة والمافيا لتسهيل العبور، وحينما تصل صربيا، هذا يعني أنك في المنتصف من الطريق، أمامك ما تجهله، خلفك ما رأيت، خلفك الخسارة التي لا تستثني أحدًا في الحروب الأهلية، خلفك الإقامة المؤقتة في دهوك لتعمل كبغل حتى توفر أجرة الطريق، خلفك ساحة أكسراي في إسطنبول وساحة باسمان في إزمير حيث الفنادق والمقاهي والسماسرة والوعود والآمال بالطائرة واليخوت السياحية، خلفك رحلة الحقيقة في القارب ذي الأربعة أمتار الذي كان يقوده حشاش تونسي وتعطل محركه في المياه الإقليمية لليونان قرب جزيرة كالمينوس، ليبقى معلقًا في الماء ولتطول المدة من نصف ساعة إلى ست ساعات من الرعب.

اقرأ/ي أيضًا: الملك عارٍ.. الملك عارٍ

خلفك شهران في أخرنون وفيكتوريا وأمونيا في تنقل بين اتفاق واتفاق، بين كذبةٍ لا تصدقها وصدق مأمولٍ من كردي أو ابن الضيعة لا تأمن له، بين ماركات ألبسة يقترحها المهرب في تنكر ساذج أو ملابس أوروبية تنتقيها أنت من محلات الملابس المستعملة بعد يأسك منهم لتتكرر المحاولة بالطائرة ست مرات كانت تنتهي جميعها في غرفة صغيرة في الطابق السفلي من مطار أثينا حيث ينظر إليك الضابط وهو يتفحص أوراقك المزورة (الجواز البلغاري أو البولندي أو التشيكي أو البطاقة الشخصية اليونانية والإيطالية أو أوراق الإقامة لشبيه لك مقيمٍ عراقي أو مصري في الدانمارك أو السويد أو هولندا) وليسألك السؤال نفسه باللامبالاة نفسها:
– Syrian?
-yes
– go.

3

حتى تركيا تكون العودة سهلة وتبقى الحيرة لكن ما إن تطأ القارب حتى تبدأ عملية التحول إلى نفر، والنفر أي الفرد من الرجال في المعاجم هو شيء بحد ذاته، كونٌ كامل لكن يمكن إهماله دون شعور بالذنب، لا هو مقيم تحت الحرب، ولا هو لاجئ في دولة من الدول الجوار، ولا هو المقيم في كامب من كامبات أوروبا الغربية، يبدأ سِفرُ تكوينه خلال المغامرة غير المحسوبة من أسئلة الحيرة: إما أن تموت أو تنضم للقتلة وإما أن تهرب.

حين يهرب أحدٌ ما، تنغلق الحكاية عليه ولا يعود يُرى، وتنفتح حكاية أخرى، يحاول فيها أن يقول أنه كان شيئًا، ذات يوم

وحين يهرب أحدٌ ما، تنغلق الحكاية عليه ولا يعود يُرى، وتنفتح حكاية أخرى، يحاول فيها أن يقول إنه كان شيئًا، ذات يوم، كان الابن البار الذي يدفع فواتير الكهرباء ويجلب أدوية السكري ويضبط جهاز الضغط، البابا البطل الذي يجعل الوقت يمرُّ سريعًا، أو الأخ صانع المعجزات، وأنه كان يقود سيارته الهونداي البيضاء في ساحات المدينة، وكان له أصدقاء يكذبون عليه في الأول من نيسان، وأنه كان يعمل ويرأف، يحب ويخون، يخطئ ويندم، ويومًا وراء يوم، يفقد شيئًا، ليستيقظ ذات صباح وقد تحول إلى حشرة هائلة، يدعونه النفر، والنفر في لغة التهريب، يُكذب عليه أينما ذهب، يُحتال عليه فيسكت، يُكلبشُ ويسير مكلبشًا أمام مائة شخص، يُجوّع ويحاكم ويسلب منه المال، يُصفع ولا يرد، تُسحبُ عليه المسدسات والسكاكين، ويُنتاكُ على حدود صربيا ومقدونيا، ولا يشتكي، ولا يبقى له سوى أن يلجأ للعادة السرية، وأن يتمرّس في الحكة، وأن يعد السنتات سنتًا سنتًا في عمليات الجرد اللانهائية التي تجريها الگروبات أينما حلوا.

اقرأ/ي أيضًا: يوم الأرض.. فلسطينيو 48 في مواجهة "التشبيح"

وفي ظهيرة يوم اثنين حين يأتي موظفان يعانيان من اكتئاب عطلة الأحد، يفرحُ النفر لأنه سيستلم أوراقه، ما يدل عليه، فيبتسم بوداعة للمتجهم الذي يصوره بالموبايل، ويسلم يده للموظف الآخر لترتخي بإذعان في يده الخبيرة، ويبصم.

4

طريق البرّ لم يكن يُنصح به في أثينا إلا لمن أعمارهم بين 20-30 ومع قدوم الخريف، رغم أنه أقلّ كلفة ولا يحتاج سوى شنطة ظهر وخفافة رياضية وأقدامًا تتحمل، تبدّلت الأمور لاحقًا، انطلقتُ في رحلة البر الأولى مع گروب من اثني عشر نفرًا كما أفهمنا المهرب لنتخبط في جبال مقدونيا (لم تكن مقدونيا فتحت حدودها في أيلول 2014)، من نقطة إلى أخرى، في رحلة دامت ثلاثة أيام مشينا خلالها في الليل 28 ساعة، لننتهي بقافلة بلغت ما يقارب 200 نفر، وبتسليمنا أنفسنا للبوليس بعد تخلي المهربين. 

أما الرحلة الأخرى فقطعنا خلالها الحدود مشيًا (بين6-8 ساعة على كلّ حدّ من الحدود: اليونان-مقدونيا، مقدونيا- صربيا، صربيا- هنغاريا) أما داخل البلاد ففي سيارتي تاكسي في مقدونيا وصربيا، أما هنغاريا وسلوفينيا ففي سيارة شحن صغيرة تكدس فيها 26 نفرًا (كانت أصغر من سيارة الشحن الشهيرة التي اختنق فيها 71 نفر في النمسا منذ فترة) مضت دون أن يوقفها أحد خلال 9 ساعات حتى أنزلتنا في غابة صغيرة على مسافة 2 كم من بلدة تريستا الإيطالية، لنتخلص من الملابس ونكتفي بملابس جديدة، ونتهندس ونغسل وجوهنا ونسرّح شعرنا حتى لا نلفت انتباه أحد طوال الطريق حتى محطة القطار، وهذا ما حصل، لم نلفت سوى نظر البوليس، تفرقنا في الغابة واجتمعنا بعد ساعتين عند بوليس تريستا ليبقى المحقق الخمسيني شبيه إد هاريس معنا حتى منتصف الليل، وظل يدق قبضة اليد اليمنى في راحة اليد اليسرى ليكتب ضبطًا يليق بأكاذيبنا وتركنا بعده لنكمل الليل نيامًا، بعضنا أمام الكنيسة، بعضنا في النفق لنراجع في الغد المحكمة التي زودتنا بأوراق طرد خلال سبعة أيام.

المهربون ليسوا واحدًا، هم آتوون من بلاد الحروب، الحروب القديمة والحروب التي تحدث الآن

من سالونيك إلى تريستا دامت 14 يومًا من بينها 6 في نزل على أطراف بلغراد يُمنع عليك مغادرته، 6 أيام في زريبة في لويان المقدونية على حدود صربيا، وقت الانتقال الفعلي يبدو قصيرًا لكنه كافٍ لتختبر النظرية النسبية حيث الفرق بين أن تمضي خمس دقائق وأنت تقبّل امرأة في المصعد وبين أن تمضي خمس دقائق ويدك على المقلاة والمقلاة على النار.

كما أن النفر ليس ملاكًا، يحتال ويزوّر ويكذب ويخبئ ويثرثر ويهرب وينسى، المهرّب كذلك ليس شيطانًا، إنهم ليسوا بالضرورة مشطوبي الوجه بسكين، ذوي ندبات وأوشام غريبة، كما في قصص القراصنة وأفلام الأندرغراوند، وليسوا كلهم بهيئة واحدة أو بوظيفة واحدة، لا مهرب يهبط من السماء، أغلبهم أنفارٌ سابقون، علقوا في الطريق لقلة الحيلة وقلة المال أو أصحاب إقامات أوروبية استدركوا بطالتهم وكانوا أنفارًا في زمن ما، منهم السمسار أو الوشيش الذي يجلس في المقاهي ليصطاد الزبائن، منهم الريبر أي دليل الطريق بالكردية، ومنهم الرؤوس الكبيرة التي لا تظهر، ولا شيء ثابت، النفر يصبح سمسارًا، السمسار ريبرًا، الريبر رأسًا كبيرة، الرأس الكبيرة تُقتل، تدوم التحولات لتظل الدائرة-المسخ ولا تنغلق ما دامت الحروب، ولا بدّ لتُنجز الأمور من إغراء مالكي نُزُلٍ ريفية، أصحاب بيوت في مركز المدينة أو قرويين خلف منازلهم زرائب على الحدود، لإسكان الأنفار وإطعامهم ريثما ينتقلوا، ولا بد من استئجار محلات لتقوم كمكاتب لإيداع الأموال، هي في الظاهر محلات ألبسة وأحذية أو ميني ماركات، ولا بد من الاستعانة بمزورين وطابعين وسائقين محليين، أي يونانيين وصربيين ومقدونيين وإيطاليين.

اقرأ/ي أيضًا: ملك الفلافل

المهربون ليسوا واحدًا، هم آتوون من بلاد الحروب، الحروب القديمة والحروب التي تحدث الآن، جزائريون وفلسطينيون وعراقيون وأفغان وباكستانيون وسودانيون، وأكراد طبعًا، وأجرأ الأكراد أكراد الصوران (ويا للفخر، ويا للدعابة)، من أربيل وإسطنبول، إلى أثينا وسكوبي، إلى بلغراد وميلانو، سترى الأكراد وقد أقاموا إمبراطوريتهم في الظلام بعدما زالت عن الوجود دون أثرٍ يدلّ سوى في البيانات والأغاني والمراثي.

6

من ميلان يتوزع اللاجئون، قرب محطة القطار المركزية (السنتشرالة) ينطلقون في الطائرات والقطارات أو التكاسي نحو ألمانيا وهولندا والدانمارك والسويد، ليدخلوا في حكاية أخرى، في ممرات المنفى حيث لا بد أن تقف وتنتظر مثلما أنتظر الآن وأقف على مسرح وهمي يلي درجًا وهميًا بعد سجادة مجدٍ حمراء، أمسّد الذهب اللامع لتمثال الأوسكار، ورقة الإقامة في هولندا، أفكّر بمن في حلب، بمن على الطريق، وبالمتخبطين في ممرات اللاعدالة في قانون دبلن التي تبتلع من رُفِض، ليس لديّ سوى ثناءٍ واحد، بعقلٍ بارد، أوجهه للمهربين، بصوتٍ لا تهدج فيه، دون دمعة تأثر، لأولئك الأشرار الطيبين، ملوك الأرض في الممالك اللامرئية، من يلعنهم البوليس ورجال الدولة والإعلام، يلعنهم رجال الدين وموظفو الإغاثة والمحققون والصحفيون والكتاب ونادي القلم الدولي، يلعنهم أيضًا -في سعي مبتذل نحو الطهارة- كلّ من نجا وكل من هرب وكل من يغيّر قناة التلفاز كي لا يرى الظلم، الظلم الذي أشدّه لا يُرى ويبدو واضحًا أنه، كما الشر،ّ بدأ من الأزل وسيدوم إلى الأبد.

اقرأ/ي أيضًا:

في "وطنية" الزعيق الثوري!

الصراع من أجل الاعتراف