02-أغسطس-2016

سوريا التي لم تكن حقيقيّة إلا في تعذيب أبنائها

سوريا..
هكذا بألف ممدوة تصل السماء..
هكذا حلمنا أن نكتبها يومًا
يومها كان حلمنا بسوريا القاسيّة جميلًا، 
كان حلمنا نقيًّا لم تعبث به أموال ودول.

سوريا التي أتذكر الآن: 
حلقة رقص تدور في إحدى ساحات القامشلي فرحًا بعرسٍ أُجِل طويلًا لفقر معشعش أو بسبب قصة حب مخبأة.
أغنيات تسمعها وأنت تدخن على طاولة كُتب عليها "التدخين ممنوع" في مقصف الجامعة
كأسٌ دبقٌ من الشاي وسندويشة الجبنة التي تلوث اليدين بزيتها
لوحة معلقة على جدار دكان صغير كُتب عليها "الدَين ممنوع"
كلمة رملًا، الكلمة الأولى التي تعلمتها بالعربية الفصحى،
حينها كان مدير مدرستي الابتدائيّة يصرخ بها حاثًا المتأخرين على الاصطفاف الصباحي من أجل ترديد شعارات الحزب
كرة القدم في شوارع زُفتت على عجل وجروح
في رُكبِنا، وصياح الأمهات وشتائمهن
دفتر الطلائع وصور الرئيس وأولاده
بيرة بردى
عرق الريان
قنينة النبيذ السيئ
الحمراء الطويلة و"طولها الفاخر"
صلوات لم أعرف يومًا كيف يقيمونها
طين شوارع القامشلي وأحذية المطاط
سيول حارات دمشق الجبليّة بعد ليلة ممطرة
سهرة على سطح بيت تعشّق مع جبل قاسيون
مدارس تشبه السجون بجدرانها العاليّة وأبوابها الحديديّة ونوافذها المسيّجة
كيف كنّا نتسلق تلك الجدران ونمشي عليها دون خوف؟
أطفال يلعبون بطين مخيم هُجروا إليه بعد جفاف أصاب أراضيهم
حارات قديمة ومطاعم وبارات وشوارع تضمك إليّها كلّما شعرت بالتعب
باحة الكنيسة
شاورما
فلافل
همبرغر مع بيض
مسلسلات
بعض المسارح وبعض دور السينما
حفلات موسيقيّة

سوريا التي أتذكر الآن:
رضيعٌ يموت على باب مستشفى المقاصد في بيروت لأنّ والده لا يملك المال الكافي لإدخاله العنايّة المشددة
مخيمات تبنى على عجل
صور لغرقى في بحر أزرق ممتد حتى السماء
أطفال، غير مسجلين في دوائر الحكومات، يحملون أقلامهم ودفاترهم متوجهين إلى مدارس أنُشئت على عجل
ضحكة طويلة بعد عدة صواريخ أخطأت الهدف بأمتار قليلة
خراب ودمار يلّف الشوارع الحزينة
أشلاء في بناء مجاور، تُدفن كيفما اتفق وتبقى
آثار الدماء ردحًا من الزمن قبل أن يزيلها غبار القصف العشوائي
صناديق طعام تكفي عائلة لاجئة لمدة شهر
أفلام وثائقيّة
صور
قنوات أخبار
مجلات
صحف
أدويّة مهربة وأسلحة تقتل وتقتل وتقتل
أحذيّة عسكريّة
"بكلّ فخر بضاعة سوريّة" مكتوبة على باب أحد المحال التجاريّة في برلين
حقائب سفر

سوريا..
هذه القاسيّة التي أخذناها معنا إلى كلّ مكان
هذه الطفلة التي نقارن بها كلّ البلاد الممتدة على خارطة هذا الكوكب
هذه الممتنعة عن النسيان
هذه القاسيّة
المجنونة
الحقيرة
الحبيبة
هذه التي ذلتنا
هذه التي نحب

سوريا البائسة الحزينة
سوريا المهدمة
سوريا التي تضحك
سوريا التي تبكي
سوريا التي ترقص
سوريا التي تُذبح.

سوريا هذه التعيسة التي تزين صورتها بضحكة كاذبة
هذه البلاد الشرموطة التي تتظاهر بالعفّة
هذه البلاد الوسخة
هذه الحارات العفنة
هذه المآذن التي تصدح بالكذب ليل نهار

سوريا… وإنّا نحب هذه البلاد.

سوريا ممتدة إلى دواخلنا
سوريا ممزوجة بالألم والأمل وصور زبد البحر والغرقى
سوريا أبواب مفتوحة للغرباء ومغلقة في وجوهنا، نحن غرباء هذا الكوكب. 

سوريا الجريحة جرحًا يتسع لمجرات وأكوان
سوريا الحزينة حزنًا يبلعنا لقرون
سوريا هي الندبة التي نحملها على وجوهنا أينما حللنا
سوريا العصيّة على التعريف
سوريا المعمّدة بالدمع والمغطاة بتراب قديم موغل في القدم
سوريا الأسوار
سوريا السجن

سوريا جسد المسيح على الصليب
سوريا صوت محمد يعلو ويعلو
سوريا صلاة وسكر وعربدة
سوريا صوت الله أكبر يتبعها صوت كفر
سوريا مخبأة تحت عباءات النساء
سوريا المسجونة في عقول صغيرة
الحرّة في قلوب كثيرة

سوريا التي نكره
سوريا التي نحب
سوريا التي نتمنى موتها
سوريا التي نتمنى أن نعيش فيها ولو ليوم واحد
سوريا الأعلام الكثيرة
سوريا اللون الواحد
سوريا المتناقضة
سوريا التي لا نعرف كيف تسيّر يومياتها

سوريا الجسد الواحد
سوريا المقسمة
سوريا المعابر والحدود وقطّاع الطرقات
سوريا القلاع المهدمة والجوامع المقصوفة بصواريخ محليّة وبصواريخ دوليّة
سوريا الكاذبة
سوريا الافتراضيّة
سوريا التي لم تكن حقيقيّة إلا في تعذيب أبنائها

سوريا القاسيّة..
هكذا بألف ممدوة تصل السماء..
هكذا حلمنا أن نكتبها يومًا.

اقرأ/ي أيضًا:

نزيفٌ من الكوكبِ الحلبي

الغرفة