انهار نظام بشار الأسد بسرعة البرق، في مشهد لم يتخيّله أكثر الثوريين رومانسيةً. وبعد أكثر من 13 عامًا من الدم والتشريد والفقر والجوع، فرّ رأس النظام الاستبداديّ باتجاه موسكو، فخلعت شوارع سوريا الحرة عن نفسها صوره وأعلامه، وقامت بتكسير أصنام أبيه، معلنةً تحرير الفضاء العام في البلاد من كل رموز المرحلة الأسدية.
يأتي هذا السقوط بعد سنوات طويلة من المعاناة الإنسانية الهائلة، التي دفع فيها الشعب السوري أثمانًا باهظة من الأرواح والممتلكات. حيث إن الملايين من اللاجئين يعيشون في ظروف قاسية، في حين عانى الداخل السوري من نقص الغذاء والخدمات الأساسية، ودمار البنية التحتية.
والآن مع تحرر البلاد من كل هذا القهر، فإن التحدي الأكبر هو إعادة الأمل لأولئك الذين فقدوا كل شيء، وضمان عودة كريمة وآمنة لهم. إلى جانب مجموعة واسعة من التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه المرحلة الجديدة.
لم يأتِ سقوط هذا النظام وفرار رؤوسه الخبيثة نتيجة الهجوم العسكري، بل لتراكمات طويلة من القمع والاستبداد والفساد، وبسبب فشله في الحفاظ على الدعم من حاضنته الشعبية التقليدية.
حدوث انتقال سلس للسلطة وعدم الذهاب إلى سيناريوهات دموية مثّل نوعًا من المؤشر الإيجابي على أن هناك حرصًا على تحقيق الاستقرار في سوريا
وقد أكّدت تقارير متعددة أن أهم أسباب هذا السقوط الدراماتيكي كان الاعتماد المفرط على الدعم الخارجي، دون تقديم إصلاحات داخلية حقيقية أو استيعاب المعارضة.
صحيح أن الدعم الخارجي، وعلى وجه الخصوص الإيراني والروسي، لعب دورًا حاسمًا في إبقاء النظام السوري على قيد الحياة طوال سنوات الحرب. إلا أن علامات الضعف راحت تتسرب إلى هذا التحالف مع تزايد التحديات الإقليمية والدولية. بدءًا من انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، ومن ثم تحويلها لمواردها العسكرية إلى تلك الجبهة، ما جعل سوريا أقرب إلى جبهة ثانوية. في الوقت ذاته راح الدعم الإيراني يتآكل بسبب العقوبات الاقتصادية وتزايد الضغط الداخلي في إيران، إلى جانب تصاعد حدة الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران والمليشيات الحليفة لها. وفوق هذا كله، جاء الموقف الصعب لحزب الله في العدوان الأخير على لبنان ليجعل الحزب ينكفئ عن تقديم الدعم للنظام.
كشفت هذه الأسباب عن ضعف وهزال النظام الأسدي أمام هجوم المعارضة، حيث لم يبق أمام بشار الأسد سوى الهروب متخليًا عن حلفائه وحاضنته.
لكن حدوث انتقال سلس للسلطة وعدم الذهاب إلى سيناريوهات دموية مثّل نوعًا من المؤشر الإيجابي على أن هناك حرصًا على تحقيق الاستقرار في سوريا بعد كل ما عرفته خلال قرابة عقد ونصف من الدمار والخراب والمجازر. وكان الإعلان عن حكومة انتقالية، برئاسة محمد البشير، بمثابة خطوة نحو بناء نظام سياسي جديد. ومع ذلك، تواجه هذه الحكومة تحديات كبيرة، مثل توحيد الفصائل المسلحة، وإشراك جميع الأطراف السياسية والاجتماعية، وتقديم رؤية موحدة ومقبولة داخليًا وخارجيًا.
وعلى هذا يمكن القول إن بناء نظام سياسي جديد في سوريا يشكل تحديًا كبيرًا، لأن البلد متعدد الطوائف والأعراق. وهناك حاجة لضمان تمثيل جميع المكونات السورية في العملية السياسية، بما في ذلك العرب السنة، والأكراد، والعلويين، والمسيحيين، لضمان عدم تكرار الاستبداد أو الإقصاء. وتجارب أخرى، مثل العراق ما بعد صدام حسين، التي أظهرت أن إقصاء مكونات معينة لن يؤدي سوى إلى تفاقم الانقسامات، وبالتالي إضعاف الدولة.
يعرف السوريون اليوم أنه من الضروري تشكيل حكومة انتقالية توافقية تحظى بشرعية داخلية وخارجية، وتضمن مشاركة كل القوى الوطنية لبناء مستقبل سلمي ومستقر. إلى جانب الملفات الأخرى: إعادة بناء الجيش وقوات الأمن، وإعادة الحياة للاقتصاد وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وملف العدالة الانتقالية، وتأسيس لبنة النظام الديمقراطي والحكم الرشيد.
ولعل إعادة بناء الجيش السوري وقوات الأمن مسألة بالغة الأهمية، من أجل استعادة السيطرة على البلاد ومنع الفصائل المسلحة من التصرف بشكل مستقل. وهنا يمكن الإشارة إلى تقدير الموقف الذي أصدره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الذي أكّد على أهمية دمج الفصائل المسلحة في جيش وطني موحد تحت إشراف الحكومة الانتقالية، مع ضمان احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.
لا شك أن القيام ببناء جيش وطني يتطلب تبني برامج تدريجية لإعادة تأهيل أفراد الفصائل المسلحة ودمجهم في مؤسسات الدولة. وفي هذا الصدد لا بد من الاستفادة من تجارب دول أخرى، مثل البوسنة والهرسك، التي نجحت في دمج القوات المتصارعة في جيش موحّد.
من جانب آخر، يواجه السوريون تحديًا كبيرًا وملحًا يتمثّل في تحقيق العدالة الانتقالية، وسط دعوات متصاعدة وحثيثة لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الكبرى خلال حقبة الأسد. ومن المعروف من تجارب دول أخرى عديدة أن العمل على التوازن بين العدالة والمصالحة كثيرًا ما يجنب البلاد جنون الفوضى أو متاهات الانتقام. وفي هذا الصدد تعمل عشرات الجهات المدنية في الداخل السورين والخارج أيضًا، على تبني آليات لتحقيق العدالة دون إشعال صراعات جديدة.
العدالة الانتقالية أحد أهم الملفات في سوريا ما بعد الأسد، حيث تتزايد الدعوات لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي حدثت خلال الحرب. ولنا في التجارب الدولية السابقة مثال، لا سيما تجربة جنوب أفريقيا ولجنة الحقيقة والمصالحة، التي تقدم نموذجًا ملهمًا لتحقيق التوازن بين العدالة والمصالحة.
معيشة السوريين التي أوصلها النظام السابق إلى مستويات غير مسبوقة من الفقر تحتاج معالجة فورية، فالاقتصاد الذي دمرته الحرب والنهب واللصوصية يحتاج إلى خطة إنعاش سريعة، ترتكز على دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتشجع على عودة رؤوس الأموال الوطنية، وذلك كله بالتوازي مع العمل على جذب استثمارات خارجية من الدول الصديقة. كما أنه لا بد من إعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية وفتح المجال أمام التعاون الإقليمي، بما يمكن أن يساهم في توفير فرص العمل وتحسين معيشة المواطنين في أسرع وقت ممكن.
العدالة الانتقالية أحد أهم الملفات في سوريا ما بعد الأسد، حيث تتزايد الدعوات لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي حدثت خلال الحرب
في ظل استمرار خطر التدخلات الخارجية، لا بد من صياغة سياسات خارجية متوازنة تحافظ على السيادة الوطنية وتمنع تقسيم البلاد. ولعل التعاون الإقليمي والضغط على القوى الدولية لاحترام وحدة الأراضي السورية، سيكونان عنصرين أساسيين لضمان استقرار البلاد ومنع تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية.
فإلى جانب التحدي القائم بخصوص "قسد" وإسرائيل، هناك إشكاليات تخص روسيا وإيران، فلا تزال الأولى تحتفظ بقواعد عسكرية، فيما تستمر الثانية بمحاولات لترسيخ نفوذها. وهذا يستدعي من الحكومة الجديدة التعامل بحكمة مع هذه الملفات عبر الحلول السياسية والقانون الدولي.
هناك فرصة أمام سوريا لإعادة بناء نفسها كدولة موحّدة ومستقلة، يعيش مواطنوها بكرامة وحرية، ولأجل تحقيق ذلك المطلوب هو سياسات تعزز الشفافية، وتحترم حقوق الإنسان، وتستعيد ثقة المجتمع الدولي. ولا يمكن لها النجاح في بناء مستقبل أفضل دون تحقيق التوازن بين الأمن والعدالة، والحفاظ على الوحدة الوطنية، والابتعاد عن السياسات الانتقامية.
لضمان انتقال سلس ومستدام نحو دولة ديمقراطية، تحتاج سوريا إلى خارطة طريق واضحة تتضمن مراحل زمنية محددة. ومن أولويات هذه المرحلة: وضع دستور جديد يضمن التعددية والعدالة، وتنظيم انتخابات حرة تحت إشراف دولي، وإطلاق حوار وطني شامل يضم كافة الأطراف السورية. كما أن تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية وتفعيل مؤسسات رقابية مستقلة سيكونان عاملين رئيسيين لتحقيق الشفافية وبناء ثقة الشعب في حكومته الجديدة.
سوريا عند مفترق طرق تاريخي. وبناء عليه يتحقق النهوض النهائي أو تعود الكبوة والسقوط مرةً ثانية. لهذا يظل هذا الانتصار ناقصًا إن قصرناه على مجرد إسقاط للطاغية وأغفلنا بناء الدولة.
تحتاج المرحلة الحالية إلى الكثير من الحكمة، وإلى دعم شعبي داخلي لعملية الانتقال الديمقراطي، فزمن الخوف والقمع قد انتهى، وبات على السوريين أن يأخذوا دورهم التاريخي، وأن يثبتوا قدرتهم على صنع التغيير، وتحقيق حلمهم الجماعي بالحرية والكرامة، وهم بالتأكيد قادرون على ذلك.