30-يناير-2016

(جان مور/Getty)

محاولة اكتفاء الأسر السورية شهريًا تبوء بالفشل. وهنا تمتد الأيدي إلى المدخرات إن كانت موجودة، وإلا فستتراكم الديون. لا نتكلم هنا عن العاطلين عن العمل، الذين بلغوا بحسب أكثر الإحصاءات سخاء أكثر من نصف القوى العاملة، بل عن أسر يعمل الرجل فيها عملًا أوعملين، وتعمل زوجته أيضًا.

فالسباق مع غلاء المعيشة سباق منهك وغير متكافئ مهما كان المتسابق نشيطًا. عربة الغلاء واسعة تتسع لكل شيء، وتجرّها عدة أحصنة، تزداد عند كل مفترق: هناك أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت منذ البداية، ولم يقتصر ذلك على المواد المستوردة التي ارتقت أسعارها بسبب غلاء الدولار كالتونة المعلّبة والموز مثلًا، بل شمل أيضًا الخضر والفواكه المحلية، حتى البقدونس الذي يزرعه بائعو "البسطات" أمام منازلهم في قراهم الجبلية الجميلة. يقولون "ارتفع الدولار اليوم" عندما يطلبون سعرًا يزيد عن سعر الأمس. يرمون عبارتهم الاقتصادية تلك ببساطة وتلقائية، لكثرة ما رددوها في السنوات الأخيرة. ومع المواد الغذائية ارتفعت أسعار الوقود وخاصة بقدوم الشتاء، مما انعكس على أجور النقل والمواصلات. الدواء أيضًا ارتفع سعره في آب/أغسطس الفائت بمقدار 57%. وفي المناطق التي شهدت كثافة سكانية بسبب النزوح إليها من مناطق القتال حلّقت أجور السكن وأسعار العقارات حتى أصبح الحصول على مسكن حلمًا بعيد التحقق للشريحة الأكبر من الشباب السوري. وهناك فواتير الاتصالات السلكية واللاسلكية ورسوم الإنترنت السلحفائي... 

منتصف العام الفائت ارتفع الإنفاق من 130 ألفًا إلى 175 ألفًا لأسرة مؤلفة من خمسة أفراد في دمشق

الكلمات وسيعة ومطاطة. سنتكلم بتحديد، بأرقام ثابتة وحاسمة، صدرت وتصدر عن جهات رسمية وخبراء حكوميين مما يجعلنا نشكّ بأنها خضعت لبعض التشذيب، وراحت تلك الأرقام تنمو منذ بدء الأزمات والغلاءات:

في الشهر الأخير من العام 2013، صدر إحصاء رسمي عن "المكتب المركزي للإحصاء" أفاد أن مصروف التنقل وحده يتجاوز ربع راتب الموظفين الحكوميين الذين يشكلون فئة كبيرة من القوى العاملة السورية. وهذا الإحصاء جرى بعد إحدى موجات الغلاء التي ضربت سعر المازوت. ويضيف الإحصاء حينها أن متوسط إنفاق الأسرة السورية ارتفع ليبلغ خمسين ألف ليرة، بعدما كان ثلاثين ألفًا في الفترة بين عامي 2009-2011.

قفزة كبرى حدثت في متوسط الإنفاق هذا العام بين قفزات عدة راحت تزداد مع التقدم في الصراع والاستنزاف في الموارد. فبين أوائل تموز/يوليو وأواخر آب/أغسطس ارتفع الإنفاق من 130 ألفًا إلى 175 ألفًا لأسرة مؤلفة من خمسة أفراد في دمشق وريفها تحديدًا بحسب رئيس جمعية حماية المستهلك هناك، والسبب هو ارتفاع أسعار البنزين والدواء والكهرباء، وارتفاع سعر صرف الدولار كذلك ( يتراوح بين 310 - 320 في السوق السوداء).

أمام هذه الأرقام الضخمة سيتحول سؤال أي من العاملين إلى شكوى وتبرم، خاصة إذا علمنا أن متوسط مدخول بيت يعمل فيه الرجل والمرأة موظفين حكوميين كما هو الحال في العديد من البيوت السورية يتراوح بين (50 ألفا - 75 ألفا) وهو مدخول مضمون شهريًا، لكن أسر أخرى من غير ذوي الدخل الثابت قد تبلغ رقمًا يكون أحسن بقليل، أو أدنى في شهور أخرى، لكنه بالتأكيد لن يصل إلى الحد الوسطي الكافي للعيش دون انكسار في الميزانية، كما أن رواتب العاملين في القطاع الخاص بقيت في معظمها دون أن ترتفع بما يسمح بمواكبة نسبة الغلاء. زيادات متفاوتة في القطاع الخاص، مع مراسيم الزيادات في القطاع العام، تبخرت كلها سريعًا. وهذا كله دفع اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الأسكوا) إلى التصريح بأن "90% من الشعب السوري سيصبحون تحت خط الفقر" إذا ما استمرت الحرب. فما الذي سيحدث إن استمرت الحرب لأعوام أخرى مقبلة؟


هذه الصعوبات التي تعاني منها الأسر السورية العاملة في الداخل، تتراجع أو تنعدم عند الأسر التي لديها أحد أبنائها يعمل في الخارج، وبالتالي يقبض بعملة غير سورية. إذ إن التراجع الكبير في قيمة الليرة السورية أدى إلى تحوّل أي مبلغ محوّل من الخارج إلى رزمة كبيرة من الأوراق المالية السورية، وهنا ارتفعت نسبة الإعالة حتى لو كان المُعال يعمل.

انخفاض قيمة الليرة السورية دفع بالعديد من الشباب السوري منذ 2012 إلى محاولة إيجاد عمل خارج البلاد. توجه السوريون إلى لبنان كما اعتادوا أن يفعلوا منذ عقود، لكنهم نزحوا هذه المرة مع عائلاتهم، وعملوا في ظروف صعبة مقابل المأوى والكفاف. ومن لم تهجرهم الحرب دفعتهم الحاجة، فتخلى الكثير من أصحاب الحرف عن حرفهم ونزلوا للعمل في المطاعم مثلًا وفي سواها من الأعمال التي يسهل إتقانها، كما أن طلابًا أجّلوا إكمال دراستهم أو تركوها عندما سنح لهم عمل حتى لو كان مقابل 300 دولار، الراتب الذي لا يمكن أن يرضَى به اللبنانيون، لكنه يمكن أن يعيل عائلة سورية، ما زالت في سوريا، بأريحية.

ظلت دول الخليج وجهة مفضلة للسوريين لأسباب اقتصادية طبعًا لكنها أغلقت أبوابها في وجههم

وشكلت أربيل، المدينة العراقية الشمالية، وجهة جديدة، وخاصة للكرد السوريين، الذين راحوا يتنقلون من مناطقهم في الشمال السوري إلى المدينة النفطية بسهولة، والتي منحتهم رواتب جيدة، وإن كانت كلفة المعيشة فيها مرتفعة.

وظلت دول الخليج وجهة مفضلة للسوريين، لأسباب اقتصادية طبعًا، لكنها أغلقت أبوابها في وجههم، والأصح القول إنها تركتها مواربة لا يدخلها إلا القليل وبشروط محددة كأن يكون الداخل صاحب رأس مال يريد أن يستثمره، مع أن هذه الدول الغنية وذات عدد السكان القليل، كان بإمكانها أن تُخفّض نسبة البطالة في سوريا، وتساعد في رفع مستوى الدخل للسوريين، الذين عملوا في تلك الدول بإخلاص وأمانة منذ بداية التسعينيات، عندما بدأت عائدات النفط تتجسد عمرانًا ومشاريع سياحية، وقبل ذلك مدارس علم فيها المعلمون السوريون أبناء الخليج.

اقرأ/ي أيضًا:
أي مصير للغة "موليير" في سوريا؟
سوريا تواصل تصدير أزمتها للعالم