23-أكتوبر-2015

لم يتبق للأطفال شيء (Getty)

كان الولد ينتظر أمام باب الورشة المغلق، يستلقي بتعب على بطنه فوق الصوفا السوداء الموضوعة تحت الشجرة. حضر باكرًا كعادته. ربما يرميه أحد أقاربه أو جيرانه أمام الورشة وهو في طريقه بسيارته إلى عمله، بعد أن انتزعته والدته من سرير طفولته، في قلبها. ربما يكون والده من وضعه هنا، وربما يكون والده ميت أو مجهول المصير كما هي حال العديد من العائلات التي نزحت بنسائها وعجائزها وأطفالها فقط.

لكن وصفه بالولد فيه بعض المبالغة. هو، بالنظر إلى عمره، طفل دون مبالغة. عشرةٌ أو أحد عشر عامًا لا أكثر.

الصبي أو الولد أو الطفل أو الرجل الصغير... حلبي بحسب لهجته. أجاب "إجيتو قذيفة" ردًا على سؤالٍ عن حال بيتهم. ثم عدل إجابته سريعًا، كأنه اطمأن إلى محدثه أو تمتع بشجاعة مفاجئة "إجاه صاروخ وبرميل". الإجابتان صادرتان عنه وإن كانت إحداهما تصويبًا للأخرى، وإن كانتا ستنعكسان في حديث مع شخص آخر. قد تكون إحدى الإجابتين صحيحة، أو قد لا تصحان كلاهما، أو تصحان معا فالدمار كبير ومتبادل وغير محسوب. الواقع أن بيتهم في حلب تَدَمّر. والواقع أيضا أن الكثيرين من الأطفال فقدوا آباءهم، كما هو واقعٌ صارمٌ وثقيلٌ أن طفلًا لا يحمل من الطفولة إلا عمرها، أن طفلًا زايلت وجهه ملامح الطفولة وصار من أغرب وأبعد الأشياء عنه أن يبتسم، أن طفلًا زحفت علائم الرجولة المبكرة إلى وجهه الصغير الأسمر واحتلتها لأنه يعمل في ورشة حِدادة في مدينة صناعية قذرة الهواء، وأن ثمة العديد من أقرانه مثله.

بحسب النسب العمرية داخل المجتمع السوري، فإن الشريحة التي يقل عمرها عن خمس عشرة سنة تشكل ما نسبته ربع السكان، وضمن هذه الشريحة يوجد الأطفال الذين يجب أن تحتضنهم مرحلة التعليم الأساسي أي الصفوف بين الأول والتاسع.

المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وفي تقرير صادر عنها في شهر تموز/ يوليو الماضي تتوقع أن يصل عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار بحلول نهاية هذا العام إلى نحو 4,27 مليون لاجئ. فيما تشير الأرقام المتداولة حول أعداد النازحين داخل البلد إلى ملايين ستة أو سبعة تركت مناطقها إلى أماكن أخرى في غربة أخف وطأة. وإذا حسبنا عدد الأطفال ضمن أعداد اللاجئين والنازحين بحسب نسبة الربع أعلاه نكون أمام أرقام مهولة، تخبرنا أن النسبة الأكبر من التسرب الدراسي موجودة داخل سورية وهي لا تقتصر على النازحين فحسب، الذين توجد نسبة كبيرة من أطفالهم خارج المدارس.

المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تتوقع أن يصل عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار بحلول نهاية هذا العام إلى نحو 4,27 مليون لاجئ

للتسرب أسباب متعددة منها مثلا اضطرار الأطفال للاشتراك في جني المصروف الشهري للعائلة التي تحاول بلوغ الحد الأدنى لمصاريف المعيشة، وغالبًا من خلال الاشتغال في أعمال قاسية لا تلائم أجسادهم الصغيرة الطرية، مثل اشتغالهم صبيانًا متمرنين عند أصحاب الحرف والمصالح، فيما ينتشر بعضهم الآخر في الشوارع يبيعون علب المحارم أو يقيمون بسطات مرتجلة يبيعون عليها حتى المعونات التي يتلقونها.

الأطفال النازحون لا خيار لهم أمام العمل، وتحديدًا العائلات التي مرت عليها سنوات وشتاءات اضطرت معها إلى استبدال الخيمة بمسكن تحتمي فيه وعليها أن تسدد أجرته المتزايدة آخر كل شهر. مشكلة أخرى يواجهها الأطفال في العائلات التي فقدت رجلها تتمثل في حتمية عمل الأولاد الذكور، فيما أمهاتهم الأقدر بدنيًا على العمل واللواتي لا مدرسة لديهن يلزمون مساكنهن بسبب نظرة اجتماعية تحصر دور المرأة في بيتها وعملها داخله. وهناك أسباب أخرى للتسرب المدرسي منها السخريات والاتهامات والمضايقات التي تطال الأطفال النازحين في المدارس التي يختلطون فيها مع الأولاد في مناطق نزوحهم ذات الاتجاهات السياسية المعاكسة، والتي يفضل معها الأهل إبقاء أولادهم بينهم، وهذا يعني بقاء البنات تحديدًا دون تعلم أي شيء، ملازمات لبيوتهن في انتظار العمر الذي يصبحن معه مؤهلات للزواج، ليصبحن أمهات شبه أمّيات، تمامًا كما كان يحصل لهن قبل قرن.

اقرأ/ي أيضًا: الصناعة السورية.. "ما ضل شي"

أما بالنسبة للأطفال اللاجئين إلى دول الجوار السوري فحاجتهم إلى العمل أكثر إلحاحًا وظروف عملهم أكثر قسوة، والعمل هو السبيل شبه الوحيد لهم إذ لا تتوفر في مخيمات اللجوء أبسط أساسيات الحياة، فكيف بالتعليم والمدارس التي تستطيع جذب الأطفال والاحتفاظ بهم؟  

الأرقام تتحدث عن مستقبل قاتم ينتظر البلد المدمر وأبناءه المستَهلكين المشردين. في كل سنة يزداد الدمار الشامل، دمار البشر قبل الحجر، وما زال هناك أطفال تولد، ولا مؤشرات إلى نهايةٍ.

البشر يعمّرون البلاد المهدمة. أوروبا أعيد بناؤها بعد الحرب العالمية الماحقة. يعمّر البشر البلدان بعلمهم أولا ثم بسواعدهم، هكذا علمونا في المدارس. ولكن كيف يكون الحال إن كان البشر مدمّرين؟ إن لم يتلق الأطفال، جيل البناء، التعليم الذي يستحقونه؟ وإن تعبت سواعدهم الرفيعة بالعمل المبكّر؟

اقرأ/ي أيضًا:  أطفال سورية الذين خرجوا من أعمارهم