سوريا.. تناقضات الواقع بين دعوات الانفصال ومحاولات الإعمار
5 سبتمبر 2025
تعيش سوريا على وقع مشهد متناقض يختصر أزمتها الممتدة منذ أكثر من عقد: ففي الجنوب، تتصاعد الأصوات الداعية إلى "كيان مستقل" للدروز بقيادة الشيخ حكمت الهجري، فيما تشهد العاصمة دمشق إطلاق مبادرة وطنية لإعادة الإعمار عبر "صندوق التنمية السوري".
وبين هذا وذاك، يجد السوريون أنفسهم أمام مسارين متوازيين: انقسامات سياسية وطائفية تهدد وحدة البلاد، وجهود إعادة بناء الدولة والمجتمع بعد سنوات الحرب والدمار.
"كيان مستقل"
في كلمة مصوّرة عبر مواقع التواصل، جدّد الشيخ حكمت الهجري، أحد شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز في السويداء، الدعوة إلى إنشاء "كيان مستقل" للطائفة، مؤكدًا أن هذا المطلب يمثل "إرادة الشعب" وأن حق تقرير المصير "لا تراجع عنه مهما كانت التضحيات".
اللافت في كلمة الهجري لم يكن فقط تكرار الدعوة السابقة إلى "الإقليم الدرزي"، بل أيضًا توجيه الشكر العلني إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وللرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى جانب الاتحاد الأوروبي والأكراد والعلويين في الساحل السوري.
جدّد الشيخ حكمت الهجري، أحد شيوخ عقل طائفة الموحدين الدروز في السويداء، الدعوة إلى إنشاء "كيان مستقل" للطائفة
هذه الإشارات اعتبرها مراقبون محاولة متعمدة لتدويل أزمة السويداء وإخراجها من إطارها المحلي إلى فضاء إقليمي ودولي أوسع، في وقت يتصاعد فيه الاحتكاك بين القوى الكبرى على الأرض السورية. كما ربط محللون هذه المواقف بمحاولات استثمار حالة الاحتقان الاقتصادي والسياسي التي تعيشها المحافظة منذ سنوات، من أجل الدفع باتجاه مشاريع سياسية انفصالية قد تُفجّر الخريطة السورية الهشة أصلًا.
انقسام داخل الطائفة الدرزية
وكان الهجري قد دعا في آب/أغسطس/آب الماضي إلى تشكيل "إقليم درزي" وأعلن تأسيس قوة مسلحة باسم "الحرس الوطني" في السويداء، وتزامنت هذه المواقف مع مظاهرة رفعت علم إسرائيل في المدينة وطالبت بالانفصال، ما دفع مراقبين إلى التحذير من محاولات إفشال أي تسوية داخلية تخص الجنوب السوري.
دعوة الهجري أثارت انقسامًا داخل الطائفة. فمشايخ العقل الآخرون، حمود الحناوي ويوسف جربوع، رفضوا بشكل قاطع أي استقواء بإسرائيل أو استدعاء للتدخل الخارجي، مؤكدين التمسك بخيار "الوحدة الوطنية السورية".
تداعيات محلية في السويداء
بالتوازي مع تصاعد التوترات، أعلن مجلس القضاء الأعلى تعليق العمل بالمهل والمواعيد القانونية في محافظة السويداء، بعد توقف المحاكم عن أداء مهامها نتيجة الأحداث الأخيرة. هذه الخطوة لم تُقرأ فقط كإجراء إداري احترازي، بل عكست في جوهرها حجم الشلل الذي أصاب مؤسسات الدولة في المحافظة، وانكشافها أمام موجة الانقسام الاجتماعي والسياسي.
ففي الوقت الذي يُفترض أن يبقى فيه القضاء آخر حصون الدولة وأدواتها الضامنة للشرعية، جاء القرار ليؤكد أن الانقسام المحلي تجاوز البعد الأمني والاجتماعي إلى المؤسسات الرسمية ذات الطابع السيادي. وهو ما اعتبره مراقبون مؤشرًا خطيرًا على هشاشة سلطة الدولة في الجنوب السوري، حيث لم يعد التعطيل مقتصرًا على الدوائر الخدمية أو مظاهر الاحتجاج، بل امتد ليصيب المنظومة القضائية نفسها، بما تحمله من رمزية مرتبطة بالنظام العام وفرض القانون.
دمشق تطلق "صندوق التنمية السوري"
على الضفة المقابلة من المشهد، أعلن الرئيس أحمد الشرع من قلعة دمشق إطلاق "صندوق التنمية السوري" باعتباره مؤسسة وطنية لإعادة الإعمار بتمويل يعتمد على القرض الحسن والتبرعات المحلية والعربية.
الشرع شدّد على أن الهدف من الصندوق هو إعادة بناء ما دمّره النظام السابق، وإنهاء مأساة المخيمات التي تضم أكثر من مليون مهجر، وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين. كما أكد أن إدارة الأموال ستتم وفق معايير الشفافية.
ويُنظر إلى "صندوق التنمية السوري"، الذي تم تأسيسه بموجب المرسوم رقم 112 الصادر في حزيران/ يونيو الماضي، باعتباره إحدى أبرز الأدوات الحكومية الهادفة إلى إعادة تحريك عجلة الاقتصاد الوطني بعد سنوات من التدهور. وبحكم تمتعه بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، وارتباطه المباشر برئاسة الجمهورية، يُمنح الصندوق صلاحيات واسعة تمكّنه من لعب دور محوري في مرحلة إعادة الإعمار.
وتتوزع مهام الصندوق بين إعادة ترميم وتطوير البنية التحتية المتهالكة من طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء ومطارات وموانئ واتصالات، وبين دعم المشاريع الاستثمارية والإنتاجية عبر آليات تمويل متعددة، من بينها القرض الحسن الذي يتيح إمكانية الإقراض من دون فوائد.
وفق بيانات رسمية، تجاوزت قيمة التبرعات لصالح "صندوق التنمية السوري"، 60 مليون دولار، خلال اليوم الأول
ويرى مراقبون أن إطلاق الصندوق لا يقتصر على كونه خطوة إدارية فحسب، بل يمثل أيضًا محاولة لترتيب أولويات إعادة الإعمار وفق رؤية مركزية خاضعة لرقابة الدولة، مع ما يثيره ذلك من أسئلة حول شفافية إدارة الأموال وآليات توزيعها، فضلًا عن مدى قدرة الصندوق على استقطاب تمويل خارجي أو الاكتفاء بالموارد المحلية.
تبرعات أولية ووعود عربية
وفق بيانات رسمية، تجاوزت قيمة التبرعات لصالح "صندوق التنمية السوري"، 60 مليون دولار، خلال اليوم الأول. وأفادت وسائل إعلام محلية بأن المصادر المالية للصندوق شملت التبرعات الفردية من داخل سوريا وخارجها، والتبرعات الدورية عبر برنامج "المتبرع الدائم"، إضافةً إلى الإعانات والهبات والتبرعات التي يقبلها وفق القوانين والأنظمة النافذة.
كما تخلل الحفل مزاد علني طُرحت فيه أربع سيارات فاخرة من أسطول عائلة الرئيس المخلوع بشار الأسد، قُدرت قيمتها بنحو 20 مليون دولار خُصص ريعها لمشاريع إعادة الإعمار.
وذكرت مصادر إعلامية أن المزاد شمل سيارات نادرة من مجموعة وُصفت بأنها "من أضخم المجموعات الخاصة في الشرق الأوسط"، عُثر عليها داخل المرآب الرئيسي للقصر الرئاسي في دمشق. وأشارت المصادر إلى أن المجموعة تضم أكثر من 40 سيارة استثنائية، بعضها بإصدارات محدودة ونادرة، على أن يُنظم لها مزاد خاص لاحقًا.
بين الانفصال والإعمار
هكذا يتأرجح المشهد السوري بين مشروعين متناقضين: مشروع يرفع راية الانفصال في السويداء بدعم خارجي معلن، ومشروع آخر يسعى إلى إعادة بناء الدولة من الداخل عبر صندوق وطني للتنمية. وبينهما، يبقى مستقبل البلاد رهنًا بقدرتها على تجاوز الانقسامات الداخلية، وحشد الموارد لإعادة إعمار وطن مزقته الحروب وأثقلته التدخلات الأجنبية.