01-يونيو-2018

دعمت الصحافة الليبرالية ماكرون باعتباره بديلًا لليمين المتطرف (Getty)

منذ أن بدأت الحملة الانتخابيّة الفرنسيّة في السنة الماضية، لتنتقل في جولتها الثانية بين إيمانويل ماكرون الوسطيّ ومارين لوبان من اليمين المتطرّف، كانت الأصوات العالميّة متمثّلةً في الصحافة الليبراليّة ووسائل الإعلام الداعمة وغيرها، رفقة الوسط السياسي الفرنسي الذي اتحدث معظمة لإفشال لوبان لا إنجاح ماكرون باستثناء جان لوك ميلانشون تقريبًا، متمركزة حول المقارنة بين ليبراليّ لا يعادي المهاجرين، وبين يمينيّة لديها أقذر ما أنتجت العنصريّات على مدار القرن العشرين حتى يومنا هذا.

حينها كانت المعادلة، ولا زالت حتى يومنا هذا، واضحة للغاية: انتخبوا ماكرون لأنّه ليس يمينيًّا. وبالفعل، رغم الأصوات التي حصدتها لوبان، نجحَ ماكرون، الأمر الذي اعتُبِرَ، ولا يزال يُعتبَر، أنّه انتصار على "المدّ الشعبويّ" في أوروبّا وأمريكا بعد انتخاب ترماب.

تبين أن ماكرون ليس سوى لوبان بوجهٍ أكثر مدانةً ولباقةً ليبراليّة

لعبت وسائل الإعلام الرئيسية المهيمنة منذ بدء الحملة الانتخابيّة لترامب وغيره، وصعود اليمين القويّ، على حساسيات الرأي العام المتعلّقة بالنظام الدوليّ، والتجارة الحرّة، والديمقراطيّة الليبراليّة التي ربّما تضيع في غمرة هذا الانجراف نحو اليمين المتطرّف. وكان الرأي أنّه عليكم الاختيار: إمّا اليمين، وإمّا الليبراليّة. فالاعتقاد الذي كان سائدًا، ولا يزال، هو أنّ العالم في مواجهة المدّ الشعبويّ لا بدّ أن يصطف إلى جوار الأكثر انفتاحًا والأكثر قبولًا للآخر، بما أنّ التعدديّة هي الشعار الليبراليّ الأصيل والدائم.

لكنّ الراديكاليين لم ينخدعوا لتلك الدعاية. والآن بعد مضيّ سنة على انتخاب ماكرون تصدق الرؤيا التي كذّبها الليبراليّون وقتها. وهي ببساطة أنّ ماكرون ليس سوى لوبان بوجهٍ أكثر مدانةً ولباقةً ليبراليّة. كان الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك، واضحًا ومتبصّرًا بالفعل عندما قال إنّ القسمة ظالمة. لا يمكن انتخاب ماكرون فقط لأنّه "ضدّ" لوبان، كذلك الحال مع وزير الاقتصاد اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس بشأن الدعوة للتفكر قبل الانجراف مع مد ماكرون، أو مد معاداة لوبان. وفعلًا، كان الأمر زيفًا ليبراليًّا: فعندما تكون المعركة بين ليبراليّ ويمينيّ فالأمور ليست جيّدة، وليست على ما يرام. إنّها تدخلنا في ضلالٍ تاريخيّ لتوهمنا أنّ الليبراليّ هو التقدّميّ. وفي هذا نسيانٌ للتاريخ، وتكذيب للواقع الفعليّ.

اقرأ/ي أيضًا: ترامب الواضح... ترامب الجميل

أما المقالات التي تكتب عن المدّ الشعبويّ والسّبيل إلى مكافحته، لا تزال تتقوقع ضمن الرؤية ذاتها: لا زالت لوبان ملعونة، وماكرون محبّبًا إلى الحساسيّات الليبراليّة. لا زال شبح لوبان في المخيال الصحافيّ والليبراليّ برمّته حاضرًا، وكذا شبح ترامب الذي لم يعد شبحًا وغدا واقعًا لا يمكن الفرار منه. ويبدو أنّ ما يقوم به ماكرون من ممارسات وخطابات استعماريّة وإمبرياليّة ورؤيته للشّرق الأوسط عمومًا، لا يُحرّك ساكنًا في تلك الحساسيات الليبراليّة، لكنّها لو أتت من ترامب فستقوم الدنيا ولا تقعد.

عندما يقوم ماكرون بفعل أو خطابٍ فيما يخصّ الشرق الأوسط، يُنظَر إليه كشيء واعد وجديّ، بينما إن فعلَ ترامب، فيؤخَذ على التفاهة لأنّه مجنون ويمينيّ بالطبع. فأنت، كليبراليّ، تتقنّع بحبّ المهاجرين وعدم العداء للمسلمين والإسلام، وتشجّع على الهجرة لبلادك المتسامحة. وفي الوقت ذاته، تقوم بتصوير المرشّح الآخر بكلّ ما فيك مقلوبًا صريحًا. إنّ العداء الليبراليّ بلاغيّ، بينما اليمينيّ فجّ. وعالمنا الليبراليّ يريد التقنّع، لا الصراحة.

في العام الماضي، وفي التوقيت نفسه، أطلّ سلافوي جيجك بمقال صغير نسبيًّا على صحيفة "الإندبندنت"، بعنوان صارخ "لا تصدّقوا الليبراليين. فليس ثمّة خيار بين لوبان وماكرون"، يردّ فيه على عنوان يقول، برأي جيجك، كلّ شيء كان قد نُشر كمقال رأي في صحيفة "الغارديان"، صحيفة اليسار الليبراليّ كما يقول جيجك. العنوان هو: "لوبان يمينيّة متطرّفة من أتباع الهولوكوست. وماكرون ليس كذلك. خيارٌ صعب؟".

تمثّل لوبان تهديدًا فعليًا كونها تخاف من الأجانب وتعاديهم، لكنّ ماكرون ليس أقلّ منها في التهديد

إنّ القسمةَ غير عادلة، بل تشوّه وتخفي الموقف الراهن. إذ، حسب جيجك، تمثّل لوبان تهديدًا فعليًا كونها تخاف من الأجانب وتعاديهم، لكنّ ماكرون ليس أقلّ منها في التهديد. فإذا نحن عادينا اليمين المتطرّف، المتمثّل في لوبان، التي هي نتاج له، وألقينا بثقل أصواتنا "يتكلّم جيجك كأوروبيّ" على ماكرون نكون قد ناصرنا السبب الذي يغذي اليمين المتطرّف: أي النيوليبراليّة.

فبينما تبدو لوبان يمينيّة مركزيّة، لديها رهاب من الأجانب، بالإضافة إلى شعبويّتها اليمينيّة، فإنّ ماكرون هو النيوليبراليّ الذي يقدّم نفسه بوجه إنسانيّ "متعاطف مع الأجانب، والمهاجرين". إنّ ماكرون، يقول جيجك ساخرًا أم جادًا، هو مثل نوعٍ من الشوكلاته التي تتسبب في حدوث الإمساك بالبطن في الولايات المتحدة، بينما يرّوج لهذه الشوكلاته بنوع من المفارقة: «هل تعاني إمساكًا؟ كُلْ مزيداً من هذه الشوكلاته إذًا!». أي، بعبارة أخرى، معالجة المرض بمسبِّب المرض نفسه، ويقصد جيجك أنّ دعم ماكرون هو في الحقيقة دعمٌ للنيوليبراليّة التي، للمفارقة، هي من أنتجت اليمين المتطّرف.

اقرأ/ي أيضًا: ماكرون وأردوغان.. التجارب السياسية الجديدة

إنّنا، يقول جيجك، لا ينبغي أن نخضع للمعادلة الزائفة لليسار الليبراليّ: أي لا بدّ من دعم ماكرون "النيوليبراليّ" في مواجهة لوبان "الفاشيّة الجديدة". فهي المعادلة ذاتها، كما يحاجج، التي كانت في الولايات المتحدة: دعم هيلاري ضد الفاشيّة المتمثّلة في ترامب، متناسين، أن دعم هيلاري هو من أضعف ساندرز، وخسر الترشّح للانتخابات.

ويشير الفيلسوف السلوفيني إلى أنّ المشهد السياسيّ برمّته في أوروبّا انكسر إلى هيمنة حزبين رئيسيين: يمين متطرّف، وليبراليين وسطيين، مع بضعة أحزاب فاشيّة جديدة. وعلينا الاختيار بينهم. لذلك دعا جيجك آنذاك إلى الامتناع عن التصويت، ومن ثمّ إعادة تدبير هذا المشهد وإعادة التفكير فيه وطرح بديل، لا ليبراليّ أو "نيوليبراليّ"، بل جذريّ يوضّح ويحدّد أوروبا التي ينبغي السعي إليها، لا أوروبا القائمة على الخوف "خوف الأجانب والمهاجرين". وإذا كان مرشحو لوبان هم "مرشّحو الخوف"، فإن مرشحي ماكرون ليسوا بأحرار من هذا الخوف. إنّهم، يقول جيجك، "مرشّحو خوف" أيضًا، لكن خوفهم معاكس: الخوف من لوبان.

باختصار، إنّ عنوان صحيفة "جاكوبين"، العام الماضي، برأيي ليلخّص لنا مقالة جيجك بطرافة شديدة: "ماكرون 2017 يساوي لوبان 2022". أو بالأحرى ليوضّح لنا شعارًا رفعه لينين ذات مرّة ما أحوجنا إلى فهمه اليوم، وذلك عندما قال: عندما تكون المعركة بين يمين ويمين، سأختار معركتي!

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماكرون الظاهرة.. وأفول الأحزاب التقليدية

فوز ماكرون.. من وجهة نظر عربية