22-ديسمبر-2022
لوحة من المعرض

من المعرض

ثمة انطباع بأن هناك شعرية ما تسكنُ تفاصيل أعمال الفنان السوري بطرس المعرّي المعروضة تحت عنوان "سمٌّ في الهواء" في "غاليري كاف" في منطقة الأشرفية ببيروت. ما يعزّز هذا الإنطباع هو كتب المعرّي المرصوفة جانبًا، والتي تشكّل فسحة أخرى للتعرّف عليه فنانًا وكاتبًا.

تسلط أعمال المعرّي الضوء على تفاصيل لونيّة قابعة داخل العمل الكلّي، غير أنّ النّظر إليها لا يشتّت انتباه النّاظر عن المشهد الأساسي

تسلط الأعمال الّتي عنونها المعرّي استنادًا إلى رواية اللّبناني الرّاحل جبّور الدّويهي، الضوء على تفاصيل لونيّة قابعة داخل العمل الكلّي. غير أنّ النّظر إلى هذه التفاصيل لا يشتّت انتباه النّاظر عن المشهد الأساسي. قد تكون هذه السّمة هي الّتي تجمع بين سرديّة الدّويهي ولونيّة المعرّي.

يفتتح الزائر المعرض بعمل ضخم: لوحة مقسّمة إلى ثلاث قطع يغلب عليها السّواد الّذي يبدو مع الوقت جزءًا جوهريًا من مساحة اللّوحة ومداها. السّواد البعيد عن سواد العزلة، وكأنّه سوادٌ بكر يخضع، تمامًا، لتأليفات الألوان المرافقة.

تفاصيل هذه اللّوحة تردّ الناظر إليها إلى سورية. كافة عناصرها تُحيل إلى ذاك المكان: القوارب التي تخرج من اللّوحة وتكمل مسيرها على الحائط، المأذنة، الحارات والإزدحام والمشهديّات المفتوحة على الذّاكرة. عناصر اللّوحات هنا تقدّم فنّ المعري بوصفه فنًّا يقوم على الذّاكرة ويستندُ إليها.

اللوحة الثّانية هي عبارة عن "عشاء سرّي" كما يتخيّله المعرّي، أو كما يحلو له أن يُرتّبه بطريقة هادئة وغير صاخبة. هذه ترجمة واحتفاء بتعبيرات وأفكار تحتشد داخل العمل، مختومة بإضافة خاصّة من الفنّان نفسه وهي الدّيك. ولعلَّ سؤالًا مهمًّا يتبادرُ لذهن الناظر: من أين أتى الدّيك إلى لوحة العشاء السّري؟

من المعرض

المعرض متفرّق لا يقدّم حالة واحدة، وإنّما حالات موزّعة وانطباعات متزاحمة ومحتشدة عقب رؤية الأعمال. في الجانب المقابل نجد مجموعة من المونوتيب، وهي عبارة عن إلصاق الأوراق فوق الحبر وسحبها لتكون بنسخة واحدة. تجسّد هذه الأوراق أو السكيتشات، لو صحت التسمية، أجساد نساء وعيون، طائر بجسد غائر وغائب، وهي بشكل ما التفاتة سريعة وشغوفة تفصلُ بين روحيّات الأعمال وموضوعاتها.

وبطبيعة الحال يمكن أن ينحاز الناظر إلى اللّوحات الكبرى لما فيها من مقدرة على التّعبير، ومن تراكم الإشارات والإيحاءات التي تغذي سرديّة العمل وذاكرته وإضافاته الذّاتيّة.

في الزوايا المتبقية، يظهر الثور كثيمة أساسيّة في مجموعة من اللّوحات ثورٌ يتناوب مع مجموعة كراسي مقلوبة وزوارق وطابة على تشكيل مشهد في الظّل. يبدو الثور، على تقلّباته، وكأنّه في الظّل وموزّع على أمكنة مختلفة. يمكننا أن نضيف أيضًا سلسلة أخرى ركيزتها الدبّوس والموز، وهي أعمال تُعلي من شأن المساحات اللونيّة الفارغة والحواشي بعيدًا عن الحشود والاكتظاظ.

المعرض متفرّق لا يقدّم حالة واحدة، وإنّما حالات موزّعة وانطباعات متزاحمة ومحتشدة عقب رؤية الأعمال

زاوية أخرى تحتضن سلسلة أعمال صغيرة سُكّانها هم مَن يطلعون من التراث كعنترة وعبلة، وأيضًا دراويش المعرّي الّذين يتواجدون في مجمل أعمال المعرض. هذه اللوحات الصّغيرة هي عبارة عن وقت مستقطع يأخذه المعرّي أثناء اشتغاله على اللّوحات الكبرى. لا يوجد أيّ تعديلات على قاموس اللّوحة ومفرداتها في هذه الباقة، بل هناك مرحلة من الكشف عن أعمال كاملة تحملُ ثيمة مغايرة، وتضفي نوعًا من الحميميّة على مشهد العرض بكامله.

يمكنُ العودة أخيرًا إلى التحية إلى جبّور الدويهي المتجسّدة ببورتريه للراحل، وجارتها "سمٌ في الهواء" التي جعلت من لوحات المعري أمينة لشيء أساسي وأولي هي الذاكرة بقوالبها المختلفة.


 يستمر المعرض حتى 18 كانون الثاني/ يناير في غاليري "كاف للفن المعاصر" في بيروت.