01-مايو-2022
كاريكاتير لـ ايمانويل ديل روسو/ إيطاليا

كاريكاتير لـ ايمانويل ديل روسو/ إيطاليا

يوم اشترى جيف بيزوس صحيفة واشنطن بوست لم يعمد إلى إجراء تغييرات في سياستها. أمازون بعيدة عن السياسة المباشرة، والأرباح التي تحققها لا تعتمد مطلقًا على تسهيلات سياسية. اشترى الصحيفة كما يعمد ثري إلى تمويل ميتم للأطفال. صحيفة هي واحدة من معالم الثقافة السيارة الأمريكية سياسيًا واجتماعيًا وفنيًا، وتعاني من مصاعب في الاستمرار. يأتي ثري من مكان ما ويقرر إبقاءها قيد الصدور.

بشراء ماسك "تويتر" فإنه يضع يده على حركة شركة من الشركات التي ليست أكثر من طائر صغير يطير في سمائه. حتى الطيور الكبيرة مثل فيسبوك وغوغل وخزائن آبل وأمازون وغوغل ستتحول إلى طيور في سمائه

ثم إن الصحيفة تقع زمنيًا في الماضي بالنسبة لبيزوس الذي يطمح كزميله في الثراء إيلون ماسك إلى استعمار الفضاء، وتنشط شركته في العالم الرقمي على نحو يجعلها واحدة من أعمدة هذا الكيان الافتراضي. وفي هذا المسلك برمته يختلف بيزوس عن إيلون ماسك ومسلكه. فماسك اشترى "تويتر" التي يمكن اعتبارها شركة إعلان سياسي تعمل وتنشط في الكيان الافتراضي نفسه، ولا تنتمي لأزمنة سابقة. ثم إن الملياردير الكبير ينشط في المجال نفسه الذي تنشط فيه شركته الجديدة. بل إن طموحه المعلن والصريح يتجه نحو احتكار شبكة الإنترنت في العالم، والسيطرة على كل عمليات البث. وفي طريقه لتحقيق ذلك، ستذوي شركات حديثة وتنهار أخرى، تبدو اليوم للناظر إليها شركات ناجحة ومهيمنة. ذلك أن الهيمنة على مجال الإرسال والبث من خلال أقمار ماسك الصناعية، تزيل حدودًا سيادية كثيرة، من جهة أولى، وتخفف من تكاليف البنية التحتية اللازمة لمد شبكات الإنترنت إلى كافة بقاع الأرض، من جهة ثانية، وتستطيع، من جهة ثالثة، أن تنهي زمن الخطوط الهاتفية وشركاتها التي تبدو اليوم مهيمنة على سكناتنا وحركاتنا.

بكلام أوضح: بشراء ماسك "تويتر" فإنه يضع يده على حركة شركة من الشركات التي ليست أكثر من طائر صغير يطير في سمائه. حتى الطيور الكبيرة مثل فيسبوك وغوغل وخزائن آبل وأمازون وغوغل ستتحول إلى طيور في سمائه، أو هكذا يطمح على الأقل. ومؤدى هذا كله، أن الرجل يريد تنظيم الساحة التي تسرح فيها طيوره وكائناته. لهذا لم يكف عن التذكير بأنه سيتدخل في سياسة "تويتر" لتصبح أكثر "ديمقراطية".

في المحصلة هذا شراء سياسي. تدخل نادر لرجل أعمال من الفئة الممتازة في الشؤون السياسية العامة، ليس على مستوى الولايات المتحدة فحسب، بل على مستوى العالم. أثره في الإعلان السياسي سيعم على كل الكرة الأرضية، وسيؤثر على حكوماتها ودولها وشعوبها. هذا ليس خافيًا طبعًا، وما جعله أكثر وضوحًا تبدى في تعليقات الحكومات في كل أرجاء العالم، وخصوصًا حكومات الدول الكبيرة. وحيث إن هذا الشراء سياسي فإن تسجيله كسابقة ليس أمرًا هامشيًا. إذ أن الشاري هو أغنى رجل في العالم، وينتمي حتى الأمس القريب إلى عصبة الأشخاص الذين يديرون ثروة العالم الفائضة، لكنهم نادرًا ما يتدخلون في السياسات المحلية. ذلك أن ثرواتهم وإدارتها تفرض عليهم أن يكونوا صامتين إلى هذا الحد أو ذاك. فليس من مصلحة شركة عابرة للسماوات أن تغضب حكومة الصين أو اليابان أو الهند. لذلك يبدو هؤلاء الأباطرة أقل الناس ثرثرة وأكثرهم تحفظا. وإذا تدخلوا، فإنما يتدخلون في سياسات الولايات المتحدة على نحو حصري.

ماسك على النقيض من هؤلاء، ثرثار ومهذار. يغرد عن العملات الرقمية فتلحق بالمستثمرين خسائر فادحة، يغرد عن الضرائب فيلحق بالمستثمرين في شركاته خسائر فادحة أيضًا. تهاجم روسيا أوكرانيا فيؤمن لحكومة كييف والشعب الأوكراني وصولًا إلى شبكة الإنترنت، غير مراقب ولا يمكن قصف أعمدة إرساله.

يأتي إيلون ماسك من الجهة الأخرى من العالم ليقبض على عنق الحياة السياسية، ويقرر أن البطون الولّادة لهذه الطبقة أصبحت اليوم خارج الجامعات

لكل ما تقدم، أجرؤ على الظن أن العالم مقبل على تغيير سياسي كبير لجهة الفئة، أو الطبقة، أو الجماعة التي تدير سياساته. قبل تدخل ماسك السياسي، جاء دونالد ترامب إلى السياسة من عالم الأعمال، ولطالما أعلن أنه يدير شركات ناجحة ورابحة، وهذا ما يخوله النجاح في إدارة دولة كبرى رابحة. وفي الحملة الانتخابية التي وصل جو بايدن بنهايتها إلى البيت الأبيض، ترشح قطب آخر من أقطاب المال والأعمال لمواجهته، هو مايكل بلومبرغ، لكنه لم يكمل السباق لأسباب لا مجال لحصرها في هذه المقالة. وربما يكون هذان الحدثان هما السابقتين الوحيدتين اللتين سبقتا شراء ماسك السياسي لـ"تويتر". إذ وفي ظل تصحر في الثقافة السياسية المهيمنة في كل مكان من العالم، يبدو أن الأثرياء قرروا أخذ مصالحهم بأيديهم، والدفاع عنها على نحو واضح وصريح. وهم كانوا إلى وقت قريب يختبئون خلف واجهة التكنوقراط المتخرج من هارفرد وستانفورد، فيما يهيمن هؤلاء الخريجون على الطبقة السياسية الأمريكية برمتها من دون استثناءات تقريبًا. وحيث إن الثقافة الأكاديمية تراوح في أمكنتها منذ وقت ليس بقصير، فإن التصدي للتحديات المطروحة على المستوى العام لم يعد بإمكانها على ما يبدو. لهذا يأتي ماسك من الجهة الأخرى من العالم ليقبض على عنق الحياة السياسية، ويقرر أن البطون الولّادة لهذه الطبقة أصبحت اليوم خارج الجامعات.