15-يناير-2017

حيدر جبار/ العراق

مراقبة التفاصيل الصغيرة بعين المتسائل التائق للغوص بعيدًا عن السطح، ومشاكسة التأملات البشرية المرهقة وهي تحلق في متاهات الآفاق الكونية، ركيزتان أساسيتان تستند إليهما نصوص ديوان "سليل الغيمة" (باصورا، 2015) للشاعر العراقي علي محمود خضير.

يستهل الشاعر ديوانه بنص عنوانه "تسجيل خروج"، هذه العبارة مألوفة لدى مستخدمي المواقع الإلكترونية كالبريد الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي، لكن الشاعر وظفها إيحائيًا للتعبير عن ذاته التي اختارت ترك رؤاها بين يدي الناس والخروج إلى صومعتها، مغادرة "من تشفيهم كلمات وتسقمهم أخرى". في هذا النص الأول يقدم الشاعر نبذة مكثفة لما سيأتي في الديوان، فهو يأمر نفسه بعدم السكوت عما رأى وإخبار الآخرين به، وما رأى يمتد من بساطة التفاصيل اليومية إلى تعقيدات أسئلة الوجود الحائر، هذه المحطات إن صح -مجازيًا- توزيعها بين الأرض والسماء، ستنتقل بينها في رحلة تأملية يرسم لنا الشاعر مساراتها على خريطة الهواجس الإنسانية.

ينشغل علي محمود خضير بالبحث الدائم عن تهشيم غلاف الفكرة

تدور نصوص الديوان بشكل عام في إطار التكثيف اللفظي والصوري والبحث الدائم عن تهشيم غلاف الفكرة، وتحرير شعاعها بضربة أخيرة تعقب نقرات عدة، فمن يظل منصتًا لقصص لا دور له فيها، ولـ"الريح.. لحفيف يعبر" دون أن يمس قلبه، يتلقى أخيرًا صدمة القدر المؤلمة التي تمكنه من خشب المسرح فقط وتحجب عنه المسرحية. هكذا يرافق الشاعر قارئه من بداية هادئة مترقبة إلى نهاية صارخة تخترق حواجز الهمس المتردد لتمسك نقاط الشعور بالحرمان وتضعها فوق حروف أبجدية الوجع الروحي في نص "قدر".

اقرأ/ي أيضًا: صلاح باديس.. أخيرًا للجزائر العاصمة شعرها

لم يحصر الشاعر حركة مجساته ضمن الحدود العامة للحياة، وما تحمل من تشعبات منهكة، وإنما رمى صنارته في واقعه الشخصي ومحيطه القريب ليصطاد لحظات تتجلى فيها مشاهدات تعبر ببلاغة عن ثنائيات السمو والانحطاط، الجمال والقبح، التي تربك النفس الشاعرة، وتحملها على التخبط بين مستنقعات اليأس والتجهم وجداول الأمل والابتسام. فتارة يستغرق الشاعر في بشاعة العنف الدموي الذي يعصف ببلاده، وبضمنه جرائم القتل التي تشهدها شوارع المدن العراقية بشكل يكاد يكون يوميًا مع غياب مبررات تلك الجرائم ودوافعها، فيكتب الشاعر نصًا عنوانه "مجاهيل" ليكون لسانًا ناطقًا باسم من أزهقت أرواحهم من دون أن ينالوا فرصة التعرف على ذنبهم والقتلة، ومن تناهت إلى مسامعهم قصص الرصاص المجنون ولم يستوعبوا حجم قسوة الأصابع التي ضغطت على الأزندة وبرودها. السيارة التي تقل القتلة مجهولة، والشارع الذي تدخله مجهول، والقتلة والقتيل مجهولون، والأرض "نجهل اسمها إلى الآن"، هكذا ينتزع الشاعر هوية الحياة من الواقع الذي يجنح إلى عتمة الموت ويرغب بالمكوث فيها.

في مقابل ذلك، يشيح الشاعر ببصره نحو صفحة عامرة بالسلام من صفحات الحياة، حيث يقرأ فيها سلوكيات هادئة لشاب وطفلة وفتاة ورضيع وهم يطوعون صعابهم داخل "المقصورة 7" في القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد. 

في هذا النص يحاول الشاعر تقديم لمحة خاطفة عن احتمالات النهاية للهموم الحياتية المتعددة والمتفاوتة في مدى تعقيدها، وكيف أنها قد تأتي وتغادر تاركة من تزوره رابحًا أو خاسرًا في الوجود الصاخب (القطار الرجراج) الذي يمتص صمت العدم (الصحراء). هذا النوع من البناء التصويري القائم على مراقبة التفاصيل المحيطة، يعتمده الشاعر في نص آخر هو "مساء في مستشفى"، الذي يقتنص فيه حالات متناقضة لأناس داخل مستشفى وخارجه، ويعبر عن استغرابه من قدرة الإنسان على القفز خلال ثوان من حال إلى حال، كنسيان سبب بكائه أمام مشاهد يومية بسيطة لكنها محببة مثل "غروب يهبط" و"حمائم تلوّح".

يتحول علي محمود خضير إلى ناطق باسم من أزهقت أرواحهم من دون أن يتعرفوا على القتلة

اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء

يواصل الشاعر مسيرته في الديوان وهو يقطف الآلام والنشوات من كل زاوية يمر بها، وينثرها كلمات ناعمة خفيفة على الذهن ومموسقة بتراكيب تلبي رغبة الإصغاء إلى التناغم الإيقاعي الخفي داخل قصيدة النثر. وفي النص الأخير من الديوان الذي عنوانه "وقلتُ: خذيني.."، يمنح الشاعر فسحة لذاته يعبر فيها عن رغبته في الانطفاء داخل ذاكرة من عرفوه، ربما لأنه لم يعد قادرًا على الحضور وسماع تأوهات الرازحين تحت مطارق الزمن بعد تلك الرحلة الشاقة من الاستكشاف، أو لأنه يشعر بخفة تؤهله إلى ركوب الغيوم نحو "اللامكان" بعد أن ألقى ما يثقله على الورق. في هذا النص الذي يقول في مطلعه:

وقلتُ: يا غيوم خذيني..

أنا المقيمُ العاثرُ

لأكن هباءً في هبوبك

يحسد الشاعر الغيوم التي اختار أن يكون سليلا لها، يحسدها على قصر بقائها في عالم يرهق من يطول بقاؤه فيه.



اقرأ/ي أيضًا:

القصّة القصيرة.. سلطة الهامش

خمارة جبرا.. وحول القاع الدمشقي