23-أبريل-2023
الشاعرة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي

الشاعرة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي

رحلت عن عالمنا، يوم الخميس الفائت، الأديبة والشاعرة والناقدة والمترجمة الأكاديمية الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، تاركةً لنا إنتاجاتها الأدبية والفكرية لنتأمّل فيها ونعيد قراءتها والتبحّر فيها ونكتشفَ معها بأنّها امرأة من أولئك النساء اللواتي يبقينَ للأبد، وذلك لصفة الخلود التي تُبقي أسمائهنّ حية ومتواجدة، بفِعل إنتاجاتهنّ التي تظلّ آثارًا خالدة في الذاكرة الثقافية للشعوب والإنسانية التي ينتمينَ إليها.

تنحدر الجيوسي من أسرة لها تاريخها في العمل السياسي والثقافي العام، والدها صبحي الخضراء كان أحد السياسيين الفلسطينيين الأوائل الذين انخرطوا في العمل من أجل وحدة العرب وحقوقهم، ووالدتها أنيسة يوسف سليم تنتمي إلى عائلة لبنانية شارك أبناؤها في الثورة السورية ضدّ الاستعمار الفرنسي.

تنحدر سلمى الخضراء الجيوسي من أسرة لها تاريخها في العمل السياسي والثقافي العام، والدها صبحي الخضراء كان أحد السياسيين الفلسطينيين الأوائل الذين انخرطوا في العمل من أجل وحدة العرب وحقوقهم،

والمتأمّل في إنتاجها الفكري والأدبي يُلاحظ غنى هذا الإنتاج وتنوعه بين الحقول المعرفية المختلفة، فقد تنوّعت أعمالها ما بين إصدارات شِعرية ومؤلّفات أدبية وترجمات للعديد من الكتب الفِكرية المهمة.

بدأت الجيوسي، المختلف في عام ولادتها ما بين 1926 و1927 و1928، كتابةَ الشعر في سنّ متقدمة، وأصدرت مجموعتها الأولى عام 1960 تحت عنوان "العودة من النبع الحالم"، وهي مجموعة ظَهرت فيها شاعرية الجيوسي بشكل لافت، حتى أنّ بعض النقاد اعتبروها أمتن مجموعة لشاعرة عربية في تلك الحقبة.

عقد الستينيات من القرن العشرين هو العقد الذي شهد دخول اسم الجيوسي إلى الساحة الفكرية والثقافية العربية، ليس عن طريق كتابة الشعر فحسب، بل عبر كتابة مقالات النقد الأدبي والترجمة للمقالات والنصوص الأدبية.

كما وأنّها انخرطت في ذلك العقد في السجال الذي دار حول تجديد الشعر العربي، وكتبت العديد من المقالات النقدية في عدد من المجلات العربية، تناولت فيها بنية القصيدة الجديدة، وأورَدت فيها أراءها حول التجارب الشعرية لعدد من الشعراء مثل: أدونيس، ومحمد الماغوط، وبدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، وجبرا إبراهيم جبرا، وخليل حاوي.

وفي عام 1979 وبعد أن دعتها كلية برنارد في جامعة كولومبيا لإلقاء المحاضرة السنوية، وبعد أن اقترح عليها مدير دار جامعة كولومبيا للنشر التعاون في نشر مجموعة من الأدب العربي الحديث مترجمًا إلى اللغة الإنجليزية، بدأت الجيوسي في بلورة فكرة تأِسيس مشروع خاصّ بها للترجمة بهدف نقل الثقافة العربية إلى العالم الناطق بالإنجليزية.

وفعلًا، فقد كان عام 1980 شاهدًا على انطلاق مشروعها في الترجمة بالتعاون مع عدد من الأساتذة في جامعة ميتشيغان، وأطلقت عليه اسم "بروتا" (PROTA –Project of Translation from Arabic)، حيثُ إنّها قامت بالتعاون مع عشرات المترجمين والمحررين والباحثين المنتشرين شرقًا وغربًا ولم يكن هناك مقر رسمي لمؤسستها، فكانت منازلها في بوسطن ولندن وعمّان بالإضافة إلى الفنادق هي مكان العمل. وتمكّنت من خلال مشروعها من إصدار العديد من الكتب الأدبية الفردية المترجمة التي قامت باختيارها وانتقائها بعناية، وعُنيت أن تكون أروع ما أنتجَ الكتّاب والشعراء العرب الحديثون والقدامى من شعر وقصة ورواية ومسرح.

ولم تكتف بذلك، فقد أطلقت في عام 1990 مشروعها الثاني وهو "رابطة الشرق والغرب"  (West Nexus -East) وهدفت من خلاله إلى عرض الحضارة العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا بالإنجليزية، من خلال مؤتمرات أكاديمية شاملة ومتخصصة، ودراسات مكتوبة بأقلام عربية وغربية، وكلّ ذلك من أجل عرض ثقافات العالم العربي والإسلامي على حقيقتها، والمساهمة في إزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النمطية المنتشرة عنها في الغرب.

أطلقت سلمى الخضراء الجيوسي في عام 1990 مشروعها الثاني وهو "رابطة الشرق والغرب" وهدفت من خلاله إلى عرض الحضارة العربية والإسلامية قديمًا وحديثًا بالإنجليزية، من خلال مؤتمرات أكاديمية شاملة ومتخصصة

وهكذا وعلى مدار أكثر من نصف قرن، كانت الجيوسي من أبرز المشتغلين على تاريخ الأدب العربي ونهضة الحضارة العربية الإسلامية، فقدّمت أبحاثًا معمقة باللغتين العربية والإنجليزية حول تأصيل الكتابة والفنون وصنوف الإبداع العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى العصور الوسيطة، كما وأنّها عملت على تأليف أعمال موسوعية أحاطت بالتراث العربي الإسلامي الثري المتعدّد، وأبرزها كتابها الشامل حول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس الذي صدر عام 1992، وكتابها الموسوعي "حقوق الإنسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص" الذي صدر عام 2009، وهو الذي حاولت فيه البرهنة على الحداثة الفكرية المتجذّرة في عمق التراث العربي الإسلامي، والتي تشهد عليها المدونات الحقوقية الأولى في هذا التراث.

إنّ الإنتاجات الثقافية الهائلة التي صدرت عن مشروعي "بروتا" و"رابطة الشرق والغرب"، والتي تقارب خمسين مجلدًا وكتابًا تقريبًا، منها أحد عشر مجموعة لها سمة "موسوعية"؛ هذه الإنتاجات جميعها والتي تمّ اعتماد الكثير منها كمراجع علمية معتمدة في عدد من الجامعات والمراكز البحثية الغربية، تَشهد للجيوسي بأنّها كانت صاحبة مشروع ثقافي واعٍ ومُبصِر بما يريده، سواء على صعيد تعريف الغرب بحقيقة التاريخ والتراث العربي الإسلامي أو على صعيد مواجهة ادعاءات مركزية الثقافة الغربية، فإرثها الفكري والثقافي في الشعر والأدب والنقد والترجمة سيبقى حيًا بعدها، يطالعه القراء في الشرق والغرب فيتذكّرونها إلى الأبد.