16-فبراير-2016

ناطور ممثلًا على خشبة المسرح

لم تتضارب الأنباء حول رحيل واحد من أعظم الكتاب الفلسطينيين الذين باتوا يعرفون بجيل النكبة الفلسطينية، بل جاء خبر رحيله صادمًا: لقد رحل عن عالمنا سلمان ناطور (1949-2016) الكاتب الروائي والمسرحي والمترجم عن سبعة وستين عامًا مخلفًا وراءه أكثر من ثلاثين عملًا شكلت في معظمها إضافة لافتة على صعيد الرواية والقصة وأدب الأطفال والمسرحية.

سلمان ناطور: الذاكرة الشفوية يمكن أن تقود المؤرخ إلى وقائع لم ترد في مصادره

سلمان ناطور، وهو المولود بعد النكبة بوقت قصير، شهد التحولات الكبرى إبان ضياع البلاد؛ ظلت صدمتها محفورة بأعماقٍ استعصت السنوات كلها من ثنيه عن مواصلة النبش فيها، واصل انشغالاته نبشًا وبحثًا وحكيًا في تلك المساحة الملتهبة في الوعي الجمعي للفلسطينيين، انشغالات كان يريد لها أن تطفيء ولو قليلًا من وهج اشتعالها في الوجدان، لكن العكس هو ما حدث دائمًا، إذ إن النكبة لم تنته أبدًا، بل ظل واقعها وعبر شخوص أعماله الأدبية، من المسرح مرورًا بالرواية إلى القصة تمده بوهجٍ يستحيل معها إنهاء مشروع الذاكرة الفلسطينية المجروحة باللجوء والاحتلال والعسف، وهي الذاكرة نفسها التي نزع عنها وفي أكثر من مرة كونها مادة علمية لأغراض الأرشيف: "إنه بحث أدبي عن الذين عاشوا التجربة"، يقول: "أنا لا أبحث عن الحقيقة بل عن الذين عاشوا التجربة"، ثم يواصل: "لا تهمني الوقائع بقدر ما يهمني الإنسان الذي عاش هذه الوقائع. الذاكرة الشفوية يمكن أن تكون مصدرًا من مصادر المؤرخين (...) لكن الأهم من ذلك أن الذاكرة الشفوية يمكن أن تقود المؤرخ إلى وقائع لم ترد في مصادره".

لم يتوقف سلمان ناطور، صاحب "هل قتلتم أحدًا هناك" (2000) عند حدود كتابة الذاكرة الشفوية وما تحتويه من شهادات أصحابها، بلا تجاوز ذلك إلى مساحة أكثر صخبًا وصراخًا، حين اعتلى المسرح أكثر من مرة ليجسد أصوات وحكايات هؤلاء، كان آخرها في ذكرى النكبة الفلسطينية عندما قدّم عرضَه لمونودراما "حدّثتني الذاكرة ومضَت"، يقول في عرضه هنا: "كيف الإنجليز الذين لا يفرّقون بين الزعتر والبارود استطاعوا أن يحكمونا ثلاثين سنة؟"، ثم يتساءل: "ألأنّ الزعتر يقوّي الذاكرة يمنعه المحتلّ عنّا كي نحترف النسيان؟".

بسخرية لاذعة مثل هذه، امتازت معظم أعمال سلمان ناطور، كاتب "ساعة واحدة وألف معسكر" (1981)، سخرية قادرة على التقاط اليوميات في الحياة العادية وقولبتها ثم قذفها في هواء الصفحات بشكل مثير للضحك والبكاء في ذات الوقت، يقول في إحدى مقابلاته: "السخرية هي سلاح الضعفاء وتجدد القدرة على البقاء والصمود والنضال، وقد اكتشفت من خلال لقاءاتي بجيل النكبة أن معظمهم يميل إلى السخرية لينتصر على ألم الجرح العميق الذي تركته فيه هذه النكبة".

تأخذ ثلاثيته "ذاكرة" و"سفر على سفر" و"انتظار" (2009) شكلًا من أشكال السيرة الملحمية التي تعجن السيرة الذاتية لواحد من أبناء جيل النكبة، سيرة تجبل نفسها بسيرة البلاد وهمومها وأوجاعها في أسلوب كتابي يمزج فيه الكتابة الصحافية بغياب تام لبطل ثابت في هذه الأعمال وبحس ممزوج بالكتابة الأدبية الساخرة.

سلمان ناطور: ألأنّ الزعتر يقوّي الذاكرة يمنعه المحتلّ عنّا كي نحترف النسيان؟

في "ذاكرة"، حلقة الثلاثية الأولى، يذهب فيها إلى نبش على لسان الفلسطينيين قبل النكبة عن صراع الهوية، أفرده في تأصيل وجود هؤلاء على الأرض وتبيين في بعض مواضعها لدهاء الإنجليز في التسلل إلى حياتهم. ينهي نصه الأول فيها بطريقة تلامس السخرية المرة: "ويمتد من أول شارع يافا وحتى مفترق شارع "السلام" عليكم ورحمة الله وبركاته".

في الجزء الثاني من الثلاثية "سفر على سفر"، يستعيد سلمان ناطور رحلاته إلى العالم والتي انحصرت في ثلاثة عواصم أوروبية: روما وباريس ولندن، يحمل في رحلاته هذه هموم الوطن، ويعيد تشكيل فيها صورة الفلسطيني التائه بين الداخل المسلوب والخارج الذي لا يدري أناسه ما الذي يحدث هناك.

في حين تذهب روايته الثالثه أو الحلقة الأخيرة منها "انتظار" إلى تسليط الضوء على انتظار الفلسطيني الذي يبدو عبثيًا لكل شيء، أشكال كثيرة من الانتظار، يختتمها بالقول: "وأنا سأظل أنتظر عباس الفرّان في شارع يافا، حتى وإن كان الطقس حارًا أو جافًا".

في روايته "هي، أنا والخريف" (2011) يثير سلمان ناطور أسئلة العقل والعاطفة في المجتمع، أسئلة ذهبت في معظمها حول العلاقات الداخلية في المجتمع وعلاقة هذا المجتمع مع المحيط، صاغ الكثير من حواراته من وحي عالم المرأة؛ "جميلة وكهرمان" في تجسيد روائي بطولي لمفهوم المقاومة النسوية لآلة التخلف والشعوذة التي تغذيها قوى الشرطة ورجال الأعمال في المجتمع.

 

 اقرأ/ي أيضًا:

 

رحيل سلمان الناطور.. النكبة من منظورها الشخصي

الطيب صديقي.. رحيل المدرسة