06-سبتمبر-2021

سلمان رشدي (Getty)

لسلمان رشدي، ولا عجب، حضوره المربك المغشّى دومًا بالجدل على منصات التواصل الاجتماعي، من نشاطه المتقلب على فيسبوك، وتعليقاته اللاذعة على تويتر"، وتردده المتقطع على منصات أخرى، مثل "تمبلر". لكن سلمان رشدي يعترف أنه لم يسمع من قبل بخدمة "سبستاك" (Substack)، منصة الرسائل الإخبارية المدفوعة (NewsLetters)، إلا بعد أن تواصلت معه الشركة مؤخرًا لإقناعه بنشر أعماله الجديدة عبر المنصّة.

ردّ سلمان رشدي على عرض "سبستاك": لا، لن أنشر رواية، ولكن سأنشر مقتطفات قصصية وتعليقات أدبية، وربما نوفيلا عبر رسائل دورية، وأية أمور أخرى تدور في رأسي وتناسب النشر الإلكتروني. يقول سلمان رشدي في حديث للغارديان: "أعتقد أن التقنية الجديدة تجلب معها أشكالًا محتملة جديدة من الإبداع، وأعتقد أن الأدب لم يجد بعد شكله الجديد في هذا العصر الرقمي".

الكتاب المطبوع بين دفتين، ما يزال حيًا عصيًّا على الموت على نحو يخالف كل التوقعات، وها أنا ذا، أحاول فيما يبدو، توجيه طعنة جديدة له

ويتابع السير رشدي في حوار مسجّل مع الغارديان: "لطالما تحدث الناس عن "موت الرواية"، وهم يتنبؤون بذلك منذ ولادتها". إلا أنّ الكاتب البريطاني من أصول هندية عاد ليؤكّد أنّ "ذلك الشيء الحقيقي القديم، الكتاب المطبوع بين دفتين، ما يزال حيًا عصيًّا على الموت على نحو يخالف كل التوقعات، وها أنا ذا، أحاول فيما يبدو، توجيه طعنة جديدة له".

رشدي على حقّ. فالكتاب المطبوع ما يزال مهيمنًا، متحديًا مقتضيات العصر الرقمي وتحولاته التي زعزعت كثيرًا من المسلّمات وبدّلت الكثير من الثوابت التي اعتقد البشر لوهلة استحالة تبديلها. فبخلاف أسطوانات الفونوغراف التي تلاشت حتى انقرضت من التداول، خاصة بعد ظهور الكاسيت ثم الأقراص المدمجة، ظلّ الكتاب على حاله صامدًا، دون أن تطرًا عليه تغييرات جوهرية في شكله في ذروة عصر الإنترنت. فالكتاب، أيًا كان نوعه، لا يختلف بشكل كليّ عمّا كان عليه قبل عقود، ولا يبدو أنّ أحدًا يرى شذوذًا أو خطأ في ذلك. لقد جرت محاولات لإدماج عناصر رقمية في الكتب المطبوعة، على شكل أكواد أو صور ثلاثية الأبعاد، لكن لم يحدث ذلك تغييرًا على جوهر الكتاب، ولم يكتب لهذه المحاولات النادرة أن تصبح نمطًا سائدًا عند التفكير بالطباعة. ليس ثمّة سوى قارئ كيندل، والذي له حضور بين من يرغبون بقراءة الكتب الإلكترونية لأسبابهم الخاصة، كالسفر المستمر أو عدم جود المساحة لاقتناء مكتبة أو حتى لأسباب بيئية تتعلق بالورق والطبيعة، ولكن حتى هيمنة الكيندل في سوق الكتب الإلكترونية نابعة جزئيًا من كون الجهاز يحاكي تجربة القراءة في الكتب المطبوعة كما يلاحظ أليكس شبيرد، في مقاله على نيورببلك. 

اقرأ/ي أيضًا: كيف تضيف الكتب العربية على قارئ كيندل من أمازون؟

مغامرة أدبية جديدة على سبستاك

سلمان رشدي، المثير للجدل دومًا، والذي عاش طوال العقدين الماضيين في نيويورك، لم يكن يعلم الكثير عن "سبستاك" ولا إمكانات التفكير فيها كمنصّة للنشر الأدبي. لكن، وبعد عرض من الشركة، شعر بشيء من الإغراء والفضول، مع رغبة عارمة باجتراح بدعة جديدة في عالم الأدب والكتابة، وراح يبحث ويستكشف خدمة "سبستاك"، وقال، في حديث عبر زوم مع نيويورك تايمز، إنه تفاجأ أنه لم يكن الأول على المنصّة، فقد سبقه مايكل مور، وباتي سميث، وغيرهم.

بعد جولة من المفاوضات مع الشركة، وافق سلمان رشدي على الكتابة بشكل حصري لصالح منصة "سبستاك"، وسيستهل هذا التعاون برواية قصيرة (نوفيلا) على حلقات، وبعض المقالات، والتي ستكون جميعها مجانية في البداية، قبل أن تصبح مقابل اشتراك شهري بحوالي 6 دولارات، للاطلاع على كامل المقالات أو القصص، أو فصول حصرية من رواية جديدة، أو ربما لفرصة التفاعل بشكل شخصي مع رشدي نفسه، كما أوضح في حديثه مع التايمز. 

يقول رشدي: "أرغب لو تتاح لي الفرصة لسؤال الناس عن رأيهم بشيء كتبته، وأن يكون هنالك تعليقات يمكن أن أشارك وأعلق عليها وأقيم استجابات الجمهور المشتركين لدي".

لسلمان رشدي (74 عامًا)، كما أوضحنا، علاقة متقلبة مشوبة بالوقائع المثيرة للجدل مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي يقول إنه لا يفضل أن يكون نشطًا عليها، "ليس على شكلها الحالي على الأقل، بحسب ما أوضح للتايمز، رغم حضوره البارز على تويتر، عبر حسابه الرسمي الموثق الذي يتابعه أكثر من 1.1 مليون حساب، وهو ما يدعي بتواضع أنّه "لا شيء، مقارنة مع الطبقة الأرستقراطية الحقيقية على تويتر".

 

إلا أنّ رشدي يفضّل ما توفره خدمة "سبستاك" من إمكانات وآفاق، حيث يمكنه التعمق في نطاق واسع من الموضوعات، وبالطريقة التي يفضلها والوتيرة التي تناسبه، كما أنّ العرض من الشركة كان مغريًا من ناحية مادية كما يظهر، حتى أن الشركة قد دفعت له مستحقاته مقدمًا بحسب ما ألمح للتايمز، رغم أنه رفض الكشف عن طبيعة الاتفاق وقيمته، مكتفيًا بالإشارة إلى أنّه رقم أقل مما يحصل عليه في صفقات نشر الكتب. (يذكر أن ثروة سلمان رشدي تبلغ 15 مليون دولار أمريكي).

لكن المؤكّد بحسب النيويورك تايمز، أن لدى شركة سبستاك ما يكفي من الأموال لخوض مثل هذه المغامرات التي تسبب جلبة وإرباكًا في قطاع النشر التقليدي. فقد جمعت شركة سبستاك مؤخرًا 83 مليون دولار في جولة تمويلية، لتصل قيمتها المقدرة إلى حوالي 650 مليون دولار أمريكي. كما استحوذت الشركة مؤخرًا على تطبيق "كوكون" (Cocoon)، وهو تطبيق للتواصل الاجتماعي يعتمد على الاشتراكات، ولا يعرض أية إعلانات.

وقد تكون الصفقة مجدية بالفعل لكلا الطرفين، فسلمان رشدي، الذي تعرّض لنكسة مؤخرًا بعد سيل المراجعات السلبية لكتابيه الأخيرين "لغات الحقيقة" (Languages of Truth)، وروايته الأخيرة "كيشوت"، التي قدم فيها سردًا ما بعد حداثي للرواية الكلاسيكية المعروفة، سيحظى بفرصة للعودة من جديد إلى مربع الجدل والاهتمام، والفضول بما يمكّن لهذا المؤلف الذي ولج خريف عمره الكتابي أن يقدمه على هذه المنصّة الرقمية الحديثة. كما أن سبستاك قد تجني ثمرة هذا التعاون بزيادة النشاط فيها واستقطاب فئات جديدة من المستخدمين على منصتها المشهورة أكثر بين الصحفيين والمدونين في المجالات التقنية المتخصصة.

لكن المؤكّد، بحسب مجلة نيورببلك، هو أن مثل هذه المغامرات التي تتقاطع بين عوالم الأدب والكتابة والتقنية والتواصل الاجتماعي والأشكال الإبداعية الجديدة، لن تفلح في رسم طريق جديد لمستقبل الكتاب المطبوع، ولا حتى للشكل الأدبي الروائي بصورته المعروفة. فلطالما سادت تكهنات قديمة بشأن أثر الإنترنت على الطباعة والنشر والأدب، لكنها جميعًا ظلت راسخة بعناد، سواء في انتشارها أو شكلها الأساسي، ويعود ذلك ربما إلى أن الكتاب في ذات يعدّ تقنية مرنة وفعالة في ذاته، وكل مقارنة بين الكتاب وأشكال التقنية الأخرى تنتهي إلى النتيجة ذاتها بشأن التفوق الأزلي للكتاب المطبوع.

منصّة سبستاك.. إغراء القديم والمحتوى الحصري الحرّ

سبستاك هي منصّة رقمية أمريكية توفر خدمات النشر والدفع والتحليل والتصميم لدعم خدمات الرسائل الإخبارية والاشتراك بها، حيث تتيح للكتّاب والمؤسسات توفير رسائل إخبارية رقمية (Digital NewsLetters) بشكل مباشر إلى المشتركين في الخدمة، بشكل مدفوع أو مجاني. وقد تأسست الشركة عام 2017، ومقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا. وتشهد الشركة نموًا كبيرًا منذ تأسيسها قبل أربع سنوات، حيث بلغ عدد المشتركين بمقابل شهري فيها أكثر من ربع مليون مشترك، ويتجاوز مجموع ما تجنيه أبرز 10 حسابات فيها من الناشرين والكتاب زهاء 7 ملايين دولار أمريكي سنويًا.

رشدي: التقنية الجديدة تجلب معها أشكالًا محتملة جديدة من الإبداع، وأعتقد أن الأدب لم يجد بعد شكله الجديد في هذا العصر الرقمي

وأهمّ ما يميز منصة "سبستاك" هو الحريّة الكاملة للمحتوى على المنصّة، حيث لا توجد قواعد للتحرير ولا قيود تتعلق بالإعلانات، ولا هواجس بحجم القراءات وزيارات الموقع، حيث تتيح هذه الحرية مساحة أوسع للتعبير والنقاش، وهو ما يغري بالانضمام إلى المنصّة للكتابة فيها، كما يغري المشتركين بالتسجيل بالرسائل الإخبارية ليصلهم هذا الشكل من المحتوى الذي قد لا يتوفّر له مثيل في مواقع الأخبار والمجلات التي تضطر للالتزام بسياسات تحريرية وضوابط شكلية مختلفة، تعيق أن يصل المحتوى إلى القارئ على النحو الذي رغب فيه الكاتب قبل مرور نصّه على مقص الرقيب. فالكاتب المستقل على "سبستاك" يملك نصّه ومحتواه بشكل كامل وحصري، كما أنه يتحكم بقائمة الاشتراك الخاصة بحسابه، ولا يتحكّم به أحد، ما يعني أن لكل كاتب "مملكة إعلامية خاصّة" على حدّ تعبير كريس بيست، الرئيس التنفيذي في سبستاك.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مترجَم: أداء الأخبار المضللة على فيسبوك تفوّق على الأخبار "الحقيقية" بـ6 أضعاف

قراءة الكتب بوصفها معيارًا للحكم على الإنسان