26-أبريل-2018

ديما دروبي

في باكورتها الروائيّة "سلطانة القاهرة"، التي صدرت بالفرنسيّة عام 2016 وانتقلت أخيرًا إلى اللغة العربيّة عن "دار هاشيت أنطوان – نوفل" (ترجمة أدونيس سالم)، تشتغل الكاتبة السوريّة ديما دروبي في منطقة سرديّة مختلفة عن التي يشتغل فيها روائيو اليوم. هكذا، تتجاهل الروائيّة المتنقّلة بين باريس والمغرب ثراء الواقع حكائيًا، لتعود إلى الحفر عميقًا في التاريخ لإعادة إحياء حكاية امرأة استثنائيّة طواها النسيان، أي شجرة الدر. وتاليًا، سوف تمزج ديما دروبي بين تاريخٍ حقيقيّ من جهة، وآخر متخيّل من جهةٍ ثانية لبناء عمارتها السرديّة هذه، لتصير روايتها، إلى جوار سردها لحياة هذه المرأة وإعادة ترميمها، تأريخًا حيًّا لحقبة زمنيّة ألقت المكائد والمؤامرات الداخليّة بظلالها الثقيلة عليها، لتُحيلها أرضًا كثيرة الزلازل والارتدادات.

تحفر ديما دروبي عميقًا في التاريخ لإعادة إحياء حكاية امرأة استثنائيّة طواها النسيان هي شجرة الدر

اختارت ديما دروبي من الأيام الأخيرة لشجرة الدر، وهي تعيش أقصى توتّراتها النفسيّة، عتبة أولى ومدخلًا أوّليًا لاستعادة شريط حياتها كاملًا. هنا، تُعيدنا الكاتبة إلى الأمكنة الأولى لهذه السلطانة، عبر سردٍ طغى عليه حضورها كـ "امرأة" على حساب حضورها كـ"سلطانة". وبذلك، تُضيء ديما دروبي أمكنةً ظّلت مظلمةً في حياة هذه المرأة، ذلك أنّها لطالما أُهملت وأًسقطت من سرديات الآخرين، تلك التي تجاوزتها لتُضيِّق من فتحة العدسة نحوها كأوّل حاكمة للمسلمين وحسب. بينما وسّعت كاتبتنا هنا من هذه الفتحة لتلتقط حياة المرأة الخوارزميّة بوصفها إنسانة أوّلًا. هكذا، تتوغّل ديما دروبي عميقًا داخل نفس السلطانة، لُتزيح اللثام عن مواطن ضعفها وقوّتها، قلقها وطمأنينتها، هزائمها وانتصاراتها العاطفيّة والسياسيّة، بعيدًا عن عرش السلطنة، ولكن ليس بمعزلٍ تامٍ عنه، لتُعيد ديما دروبي بذلك إعادة ترميم سيرتها التي تجنّبت الاستسهال في إعادة إحيائها ووضعها أدبيًا في الواجهة مجدّدًا.

اقرأ/ي أيضًا: مي زيادة كما رواها واسيني الأعرج

تضعنا الروائيّة ديما دروبي إذًا إزاء رحلة شجرة الدر العجيبة، تلك التي لم تخل من الإثارة والمكائد والعثرات، من طفلة قتل المغول عائلتها وأبادوا قبيلتها كاملةً، إلى جارية عند أكبر تجّار الرقيق في مدينة بغداد، قبل أن ينتهي بها المطاف زوجةً للأمير الأيوبي الصالح أيوب وحاكمةً للمسلمين بعد وفاته. سوف تعيدنا ديما دروبي إلى منعطفاتٍ حادّة في حياة الجارية الشابّة، وضعتها أمام اختبارات صعبة فجّرت ذكاءها وفطنتها على نحوٍ عميق. نكتشف هنا أنّ محاولة جارية ولي عهد الخليفة العبّاسي "ورد الورود" في التخلّص من شجرة الدر التي اشتراها الخليفة لولي عهده من أجل انتشاله من سطوتها قد أيقظت حاسّة حبك المكائد عند الأخيرة. وتاليًا، نقلتها من ضفة إلى أخرى بنت عليها الشكل الذي سوف تأخذه حياتها القادمة بعد زواجها من الصالح أيوب الذي فُتنَ بجمالها وسُحر بذكائها.

[[{"fid":"99672","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سلطانة القاهرة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سلطانة القاهرة"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"سلطانة القاهرة","field_file_image_title_text[und][0][value]":"سلطانة القاهرة"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"سلطانة القاهرة","title":"سلطانة القاهرة","height":331,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

زواجها من الصالح أيوب المنفي إلى شمال البلاد والمعزول عن ولاية عهد والده بفعل مكائد زوجة الأخير التي نصّبت ابنها وليًا لعهده، سوف يبلور ذكاء هذه المرأة الاستثنائيّة سياسيًا. حيث تمكّنت ببراعتها وقوّة حدسها من إعادة زوجها سلطانًا على مصر مجدّدًا، بعد معارك ونزاعات وتحالفات ومكائد سياسيّة وعسكريّة دارت آنذاك، وكانت شجرة الدر طَرَفًا رئيسيًا فيها. على هذا النحو، عرّت ديما دروبي تأثير الجواري على أصحاب القرار في تلك الحقبة. وفي الوقت نفسه، عزّزتْ من مكانة شجرة الدر كعلامة فارقة في تاريخ النساء المؤثّرات في مجتمعاتهنّ بشكلٍ عام، والمجتمعات الإسلاميّة على نحوٍ خاصّ. ذلك أنّها أوّل امرأة تُنصّب سلطانةً للمسلمين بعد وفاة زوجها.

هكذا، وضعت وفاة الصالح شجرة الدر في الواجهة، لتخوض منفردةً صراعات عدّة كانت أشدّها حربًا باردةً بينها وبين الرافضين لحكمها كونها امرأة. هنا، تلجأ السلطانة حديثة العهد إلى الزواج كحلٍ يُعيدها قليلًا إلى الظلّ ويدفع بزوجها إلى واجهة الحكم. كما كانت الأمور في أيام الصالح أيوب. وستختار من قائد جيش المماليك عز الدين أيبك زوجًا لها، وتتنازل له عن العرش. وتاليًا، ستجد نفسها مجدّدًا ضحية مكائد تُحاك ضدّها خفية وتدفع بزوجها إلى هجرها والتخلّص من حلفائها تمهيدًا لتفرّده بالحكم وعزلها عن عرش السلطنة بصورة نهائيّة. ولكن قدرتها هي أيضًا على حبك مكائد مُشابهة سوف تطفو على السطح مجدّدًا، مُستعينةً هذه المرّة بجسدها الذي تمكّنت عبره من سحر زوجها حديث النعمة وقتله بعد ذلك.

ضعت وفاة الصالح شجرة الدر في مواجهة صراعات عدّة، أشدّها حرب باردة بينها وبين الرافضين لحكمها كونها امرأة

شرّعت شجرة الدر بفعلتها هذه الأبواب لمؤامرات أطاحت بها وقادتها إلى نهايتها. ذلك أنّ محاولتها بالزواج من سيف الدين قطز لتدارك الأمور باءت بالفشل بعد الفوضى التي أحدثتها زوجة أيبك السابقة "أم علي" في السلطنة بعد نشرها لخبر قتل السلطان. سوف تُضيّق ديما دروبي هنا من فتحة الفرجار لرسم الصراع النسويّ بين أم علي وشجرة الدر. لنكتشف أنّ السلطانة حرّضت زوجها على التخلّي عن زوجته السابقة. وأنّ الأخيرة تسعى الآن للثأر لنفسها. غير أنّها، وعلى الرغم من تنصيب ابنها سلطانًا خلفًا لوالده، سوف تخرج خاسرةً من المعركة بعد أن قطعت شجرة الدر بانتحارها الطريق على ما كانت تعدّه للثأر منها.

اقرأ/ي أيضًا: كارمن ماريا ماتشادو: يزعجني كتّاب يتهيبون الحديث عن اللذة

هكذا، تُغلق شجرة الدر القوس على حياة صاخبة ومثيرة عاشتها، طفلةً وجاريةً وسلطانة، في مواجهة المكائد والمؤامرات المختلفة، طاويةً الصفحة على جغرافيا مضطّربة لن تصمد طويلًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أوكتافيو باث.. مغامرة الشاعر

فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها