21-مارس-2018

مقطع من لوحة للواسطي

ألاّ تعود فكرة اللانهائيّ في الفن الإسلاميّ إلى العلاقة الأموميّة مع الصّحراء؟ أليس الصحراويون سكّان اللانهائية في ذلك المكان الممتدّ، الدّائم، المتكرّر؟

في حياة البقع الأخرى على الأرض، تتدخّلُ الجغرافيا لتصنع نهاياتٍ؛ ينتهي الجبل عندما يبدأ الوادي، وينتهي الوادي عندما يبدأ السهل.

كما ترسمُ الجغرافيا حدودًا ترسمُ هويّات أهل المكان.

الساحليّون كالصحراويين مفتوحون على الامتداد الذي يصنعه البحر، لولا أنّهم مرغمون على البقاء عند الحدّ. ربما يسبحون فيه، ويركبونه، ويأكلون منه، لكنهم مجبرون على العودة إلى البيوت قرب الشاطئ.

لا نهائيّة البحر فرجةٌ، لا نهائية الصحراء سُكنى، بل سكنى مضاعفة، تكرارها وتمدّدها، برتابةٍ منظمّة، يجعل الناس مثلها. الأهم أنّ انفتاح تلك الأرض الذهبية على السماء يجعلهما مكانًا واحدًا.

يمكن القول؛ لا نهائية الفن الإسلامي جاءت من سكنى السماء.

*

 

أحبّ السماء وهي تصنع حياة تضاهي الأرض الغنيّة بالماء والكائنات والخضرة والجبال.

السماء باذخةٌ بمقدار ما هي متقشّفة، ورغم أنها لا تمتلك غير قبتها الزرقاء وغيومها، تخلق الألوان والحياة والأحلام والأخيلة.

أزرق بالدرجات كلها خلال النهار، إلى أن يصبح أسود في الليل، مارًّا بالخضرة، أو الصفرة، متحوّلا إلى الألوان النارية مع تثاؤب الشمس على سرير الغروب.

كذلك تتلوّن الغيوم بالأبيض والرمادي والبني والأصفر والأحمر، حسب مزاج الضوء، خلال دورات الأيام والفصول.

في الوقت ذاته، ألوان الأرض تبقى بلا تحوّل أو تبدّل، ناهيك أن التشكيلات الجغرافية، مستقيماتٍ ومنحنياتٍ، صواعد وهوابط، تبدو مثل مساعِدات بلاغية أو إكسسوارات.

ينتصر فقر السماء على ثراء الأرض الفاحش انتصارَ أحلام اليقظة على كلّ ما فينا، فبعينين مفتوحتين وخيال طليق، نرى ما لا نراه، ونأخذ ما لا نأخذه، دون مغادرة أمكنتنا.

السماء حلم يقظة الكون.

*

 

فقدتُ يديَ. نزلتُ من القطار ثمّ انتبهتُ أنّني بدونهما.

أعطاني صديقي زاهر عبد الباقي قفازيه الشّتويينِ، ومرّتْ ثلاثة شتاءاتٍ على كَفَّيَ في عمق الشمال ولم أشعرْ بوخزة برد.

يوم نزلتُ من القطار بدونهما واجهتُ شتائي الأوّل.

كم نشتري أشياء ولا نتذكّر من أين، لا يعود مهمًّا من أين! إلاّ أنّ صديقًا يعطيكَ قفازيه سيشعركَ أنّك تلبس يديه، خصوصًا أنك رأيتهما لآخر مرّةٍ تتلاشيان في جيوبه.

اليومَ فقدتُ أربعةَ أيدٍ.

*

 

وهبتِ الحياة الممثّلين فرصًا استثنائية في رؤية مستقبلهم، يكفي أن يحصل الواحد منهم على دور جدّ ليرى الشيخوخة على بعد عقود من بلوغها.

أدوارٌ أخرى تريهم موتهم وجنازاتهم وقبورهم. أحيانًا يضحك لهم الحظّ فيكونون الموت نفسه.

أكثر مبالغات سخاء الحياة أنّه في مقدورهم معاينة أنفسهم في أزمنة أخرى، مرّةً ملوكًا، ومراتٍ عبيدًا، أحيانًا رجالًا وأحيانًا نساءً. أو في أمكنة أخرى كأن يكونوا كائنات فضاء.

لا تقتصر حظوظهم على معرفة المستقبل، بل احتمالاته، ولا تتوّقف تلك الهبة على استعادة الماضي متى شاؤوا، بل استعادة الماضي الذي شاؤوا.

مُنِحوا أجسادًا كالكرات الزجاجية، وجُعِلوا عرافي أنفسهم.

*

 

أبحث عن المعنى في الأشياء، ولا أرتاح إلّا حين أحدّد معنى لأشياء بلا معنى، مثل شجرة تمتدّ عرضيًّا، على أغصانها سناجب وطيور، فأفسرها ببيت بنتْه الحيوانات الصغيرة جيلًا فجيلًا.

قطعة موسيقية غير مفهومة لأحد، تجعلها انعكاساتها في قلوبنا قصة حب، أو سيرة صديق غائب، أو صوت مكانٍ لم يعد له أثر.

لوحة بخطوط وبقع ودوائر، أجعلها أضواء تلمع في أفكار شخص يفكر بالطعام، وخلال استعار الجوع تتراسل معدته ودماغه بذلك البريد.

ما لا أجد له معنى تحذفه عيوني، فلا أعود أراه حتى لو رأيته كل دقيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن أدب العناكب

في مقهى المحطة