قبل سقوط النظام السوري، كانت منطقة ادلب تضم حوالي 4 مليون شخص من أغلب المحافظات السورية، حيث انتشرت المخيمات العشوائية في بداية النزوح، قبل أن يتم تنظيم أغلبها وتزويدها بالمساعدات الغذائية والطبية.
ورغم مرور أكثر من شهر على سقوط النظام وخروج جيش الأسد وميليشياته من مدنهم وقراهم، لا يزال غالبية المنتمين إلى أرياف ادلب وحلب وريف دمشق وحمص في مخيماتهم، فعودتهم إلى قراهم مرتبطة ببيوتهم التي لم تعد موجودة.
خالد الأحمد، أحد سكان مدينة سراقب في ريف ادلب، يروي صدمته لـ"الترا صوت" بعدما عاد من مدينة اعزاز إلى بيته في سراقب، لاستكشاف سبل العودة إلى المدينة، فما كان منه إلا أن عاد إلى اعزاز حيث بقيت اسرته بانتظاره، مؤجلًا العودة إلى وقت غير معلوم، فببساطة " المنزل لم يعد موجودًا" ولا قدرة لديه لبناء منزل جديد، لكنه يضيف: "ربما نعود في الصيف بعد انتهاء الشتاء، لعله تكون بعض الخدمات قد عادت، لا شك أننا محظوظون بامتلاكنا أرضًا، ربما نبيعها لنعيد بناء البيت، لكن فقدان الأرض سيفقدني دخلي المادي".
يحجم سكان المخيمات عن العودة إلى أغلب المدن المدمرة، بسبب فقدان كل شي، وافتقار مدنهم للبنى التحتية والظروف الأمنية الصعبة
يحجم سكان المخيمات عن العودة إلى أغلب المدن المدمرة، بسبب فقدان كل شي، فبحسب بعض العائدين إلى سراقب وما حولها، تفتقر المدينة إلى المياه والكهرباء، بعد تدمير البنية التحتية بما فيها الصرف الصحي، وسرقة أكبال شبكة الكهرباء وأنابيب المياه.
فخلال الثورة تعرضت المدينة إلى قصف مستمر من قبل قوات النظام البائد، وبعد سيطرته عليها قبل سنوات، عمد "الشبيحة" والميليشيات الموالية للنظام السابق الى سرقة كل شيء من المنازل، بما فيها الأبواب والنوافذ والتمديدات الصحية والتمديدات الكهربائية، كما يقول علاء من سكان المدينة، حيث تفاجأ عندما عاد إلى منزله الذي تركه قبل خمس سنوات، فلم يطله القصف، لكنه تعرض لسرقة كل أثاثه ومحتوياته، وتم تدمير سقف المنزل بالكامل بهدف سرقة حديد السقف وبيعه، وهذا الحال ينطبق على غالبية المنازل التي كانت سليمة، واليوم هي عبارة عن جدران بدون أسقف وأبواب ونوافذ، أو حتى بلاط الأرضيات.
هناك 80 عائلة قرروا العودة إلى مدينة سراقب والبقاء فيها، من أصل أكثر من 50 ألف عائلة سكنوا المدينة قبل بداية الثورة السورية، ومن بين هؤلاء العائدين كان أبو أحمد، والذي أخبر "الترا صوت" أنه وجد متبقيًا من منزله الجدران فقط، عندها قام بإغلاق السقف بأغطية بلاستيكية وسكن في البيت، وبالقرب منه نصب جاره خيمة بلاستيكية جلبها معه قبل أسبوعين من المخيم، والذي كان يقطن فيه مع عشرات العائلات بين أراضي الزيتون في ريف حلب.
وعلى امتداد مساحة محافظتي إدلب وحلب، هناك مئات المخيمات التي تزال تحتضن قاطنيها كـ"مخيم التح" في ادلب، الذي يضم حاليًا 600 خيمة لـ 400 أسرة. يؤكد مديره عبد السلام اليوسف في حديثه لـ"الترا صوت" أن جميع السكان لازالوا في خيمهم ولم يعودوا بعد، ويصف حالهم بالقول: "فرحتنا منقوصة، لقد نسونا تمامًا، ولا مكان نعود إليه". وبيّن اليوسف أن معظم الساكنين هنا "لا يمتلكون حتى أجور العودة، فإلى أين يعودون وبيوتهم مدمرة؟". وبحسرة كبيرة يتحدث اليوسف عن تدهور قطاع التعليم والصحة وانقطاع المساعدات بسبب توجه المنظمات نحو المدن والقرى.
انتظار قد يطول
أمام هذا الواقع الصعب، يشرح لنا الباحث الاقتصادي في مركز عمران "مناف قومان" عوائق عودة هؤلاء المنسيون، فما يمنع عودتهم هو "عدم توفر المدخرات لبدء عمل جديد، مثل افتتاح محال تجارية أو البدء بممارسة مهنة ما أو ترميم منزل، ونقص فرص العمل في القطاع العام والخاص، وكذلك المساكن إما مدمّرة بشكل كامل أو جزئي، وصعوبة السكن في منازل الأقارب بسبب زيادة عدد أفراد الأسرة بعد 14 سنة غياب"، ويضيف قومان: "قد يكون العامل الأمني بالنسبة للبعض سبب رئيسي في قراراهم للعودة، مثلًا الخوف من عودة العنف، أو الخوف من الخطف أو الابتزاز أو السرقات".
ورغم عودة بعض الأهالي إلى بعض المدن السورية المدمرة، كجوبر وعربين وزملكا بريف دمشق، يرى "قومان" أن كل المدن والقرى التي تعرّضت لتدمير جزئي أو كلي هي غير صالحة للحياة، وقد يؤدي السكن فيها إلى مخاطر كبيرة، فهذه المناطق بحاجة إلى مسح هندسي للتأكد من صلاحية المنازل للسكن، وخلوها من الأمراض والأوبئة، وتوفر الخدمات.
حلول واحتياجات اقتصادية
تبقى عملية إعادة الإعمار أكثر السبل نجاعة، لبناء القرى والبلدات والمدن التي تعرّضت للتدمير، لكن ذلك قد لا يحصل قبل أشهر أو سنوات، لأنها يجب أن تراعي كما يقول الباحث "قومان" الهوية الحضارية للمكان، وحقوق الملكية، وتوفير أفضل وأجود أنواع الخدمات بشكل فعّال يوفر الموارد الاقتصادية، ويقلل الضرر على البيئة.
وريثما يتحقق ذلك قد يبقى النازحون في مخيماتهم، في انتظار عودة أسس الحياة في مدنهم، لكن قد يواجه هؤلاء شتاءً قاسيًا، ونقص في الامدادات الغذائية والطبية، بسبب تشتت جهود المنظمات والكوادر لتغطية المدن السورية كافة، وعلى رأسها المدن الكبرى كحلب ودمشق، التان تعانيان أصلًا من تهالك القطاعات الخدمية كافة.