كغيره من باقي الأفرع الأمنية المنتشرة على كامل الجغرافيا السورية، تعرض الفرع 235، أو ما يعرف بفرع فلسطين (أمن عسكري) لعملية نهب وتخريب وحرق للوثائق وبعض المكاتب، وذلك صبيحة سقوط النظام في الثامن من كانون الأول/يناير الماضي.
بدأ الأمر بتوافد أفواج من أهالي المنطقة المحيطة بالفرع قرابة الساعة السادسة والنصف صباحًا، إذ كان أهالي حي القزاز والزاهرة الجديدة والصناعة أول الواصلين، ومنهم من التقى بالمعتقلين الذين خرجوا للتو من زنازين الفرع وأقبيته المرعبة.
التقيتُ بأحد الناجين من الاعتقال في الفرع على المتحلق الجنوبي، كان يرتدي شورتًا وجاكيتًا طويلًا بدا فضفاضًا على جسده، وفي قدميه شحاطة مختلفة الفردتين، "كل فردة شكل" كما نقول بالعامية السورية. كان حليق الرأس. أخبرني أنه أمضى سنة وثمانية أشهر في المنفردة ولا يعرف أحدًا من السجناء، ولم يختلط بهم حتى لحظة خروجهم من السجن.
لم تدم لحظة الصدمة طويلًا، سرعان ما تحولت إلى فوضى جماعية، حيث انقسم الناس بين من يبحث عن النجاة، ومن يبحث عن الغنيمة. وفي ذلك الاضطراب الكبير، بدأ كل شخص يبحث عن غايته، فتوزعوا بين الطوابق والمستودعات والمكاتب، حيث انقسموا إلى أربع فئات رئيسية كل ينشد ضالته.. وهم: الفئة الأولى هم أولئك الذين أتو من أجل سرقة السلاح، حيث تفاجأوا بكميات السلاح الموجودة في المستودعات، إذ كان في الطابق الأول من الفرع مستودع للسلاح الفردي، فيه بنادق آلية من طراز (زخاروف عيار 5.5 ملم) لم تستعمل بعد، وعددها بالآلاف، وصناديق ذخيرة لهذه البنادق في مستودع آخر وجد فيه قرابة 5 آلاف صندوق ذخيرة، وقد تم نهبها بالكامل.
بعد قرابة شهرين من سقوط الأسد، أصبح لزامًا على الإدارة الجديدة التعامل مع المقرات الأمنية باعتبارها شواهد على مرحلة عصيبة وقاسية من تاريخ سوريا، ولا ينبغي أن تُطمس أو تُترك للفوضى
أحد الأشخاص كان يحمل اثنا عشر بندقية على كتفيه وفي يديه الاثنتين، وآخر وضعها في صندوق سيارته حيث أخذ قرابة المئة بارودة وعدد من صناديق الذخيرة.
أطفال بعمر العاشرة كان يسرقون البنادق ويتراكضون فيها. هناك طفل لم يتجاوز التاسعة من عمره كان يحمل رشاشًا حربيًا ويجره خلفه، فصرخ عليه أحد الشباب ليترك الطفل الرشاش ويهرب.
مستودع آخر في القبو وجد فيه أكثر من ألف ببندقية روسية كلاشينكوف، أغلبها مستعملة، مع صناديق ذخيرة لا تُحصى، وحتى "السنوبال"، وهو سلاح يستخدم للحرس الشخصي، أقصر من البارودة وأكبر من المسدس، كان موجودًا بالمئات، تم نهبها كلها ثم بيعت لاحقًا في السوق السوداء لتجار يقومون بتهريبها خارج البلاد.
قرابة الساعة الثامنة صباحًا، بدأت بعض الفصائل المحلية بالوصول إلى فرع فلسطين من دمشق وريفها، وأكثرها فصائل من محافظة درعا، إذ قاموا بأخذ السلاح والسيارات ونهبوا كل ما وصل لأيديهم.
الفئة الثانية هم أولئك الذين ذهبوا فورًا إلى السيارات وقاموا بكسر أقفالها، وسرقوا جميع السيارات والآليات الموجودة في الفرع، کسيارات الدفع الرباعي والتي تحمل رشاشًا، أو سيارات المبيت أي الميكروباصات التي تستعمل لنقل الموظفين والعناصر، وكذلك سيارات حديثة لضباط الفرع.
الفئة الثالثة هم أولئك الذين توجهوا فورًا إلى مستودعات المصادرات، وهذه المستودعات تتنوع محتوياتها، ففيها دخان بكميات كبيرة تم ترحيله، وشاشات تلفزيونية، وبرادات، ومكيفات، وألواح طاقة شمسية، وراوترات، ودراجات نارية حديثة، ودراجات كهربائية. وهذه الفئة لم تترك أثرًا لأي من البضائع المصادرة.
الفئة الرابعة كانت في غالبيتها من النساء، وکن يبحثن عن الطعام ومشتقاته، وقد وصلن إلى المطعم، وبجانبه مستودع التعيينات، وكان يحتوي على كميات كبيرة من الرز والبرغل والزيت والسمن والمعلبات والبيض. كانت المرأة تحمل على رأسها وفي يديها كل ما تستطيع حمله من هذه المواد الغذائية، وكذلك الأطفال أيضًا. حملت هذه الفئة كل ما يستطيع حمله وقامت بتوصيله إلى البيوت، أو إلى نقطة تجميع كلفوا أحدًا بحراستها لتتسنى لهم العودة ويجلبوا كميات آخر.
البعض من هذه الفئات كان يهتم بالأكبال الكهربائية التي يقومون بقطع الكثير منها، حيث تحرق لاحقًا ويتم بيعها كنحاس، وهذه تجارة مزدهرة في سوريا.
أما حرف الوثائق فأغلب من قام بذلك كان من المخبرين والمتعاونين مع الفرع من المناطق المجاورة، حتى سعوا إلى طمس العلامات والأدلة التي تثبت تورطهم في اعتقال الكثير من الناس.
أما عن رمزية سقوط فرع فلسطين فلهذا الحدث دلالة عميقة تتجاوز كونها مجرد سقوط لمقر أمني. كان هذا الفرع أحد أكثر الأفرع الأمنية رعبًا وقسوة في "سوريا الأسد"، لأنه شكّل لعقود رمزًا للقمع والتعذيب والظلم والإهانة وانتهاك حقوق المعتقلين. سقوطه لم يكن مجرد فقدان النظام لمنشأة أمنية، بل كان إعلانًا لنهاية حقبة طويلة من الاستبداد، وشرارة ترمز إلى انهيار الهيمنة الأمنية التي كانت تتحكم برقاب السوريين.
بالنسبة لأولئك الذين سُجنوا فيه أو فقدوا أحباءهم خلف جدرانه، كان سقوطه لحظة انتصار على أحد معاقل الظلم والبطش والاستقواء على الناس، ومع ذلك لم يكن الحدث معزولًا، بل جاء ضمن انهيار شامل للمنظومة الحاكمة في دمشق، حيث انهارت الأفرع الأمنية جميعها، وسقطت القطعات العسكرية والمؤسسات الحكومية، في مشهد حسم مصير النظام الأسدي.
سقوط فرع فلسطين، ومعه بقية الأفرع الأمنية، يمثّل فرصة لإعادة كتابة التاريخ السوري بعيون الضحايا والناجين. وبعد قرابة شهرين من سقوط النظام، أصبح لزامًا على الإدارة الجديدة التعامل مع هذه المقرات باعتبارها شواهد على مرحلة عصيبة وقاسية من تاريخ سوريا، ولا ينبغي أن تُطمس أو تُترك للفوضى. بل إن حفظ الوثائق المتبقية، وحماية هذه المنشآت من العبث، وتحويلها إلى أرشيف وطني أو متاحف توثق معاناة السوريين، قد يكون خطوة نحو العدالة والإنصاف، وضمان عدم تكرار الماضي في المستقبل.