كانت الثورة السورية عندما انطلقت في عام 2011، قبل أي شيء، صورة حضارية عن مجتمع عانى عقودًا من استبداد قد لا يكون له مثيل في القرن الحادي والعشرين، وواجه البطش بالأغاني واللافتات والورود. ومنذ لحظات الثورة الأولى، أظهرت شعاراتها ومساراتها التقاطعات والتشابكات العميقة بين الاستبداد والاستعمار، عنفهما ومقاومتهما، فأنتجت خطابًا كانت الحرية والتحرر والسيادة في قلبه. استعادت الشوارع السورية المنتفضة العروبة وفلسطين من شعارات البعث وأسماء أفرع المخابرات وفضفاضية البلاغات الاستراتيجية، ووضعتهما، كما فعلت كل شوارع الربيع العربي، في قلب التطلع إلى مستقبل جديد، ديمقراطي وحر، مهموم بالناس وقضاياهم ومعيشتهم.
وبينما كان النظام وحلفاؤه يبررون باسم فلسطين والعروبة أقبح أنواع البطش، كانت مسارات الثورة، انتصاراتها الأولى، وخيباتها اللاحقة، تجسد فلسطين مرة أخرى، حتى صارت المقتلة والتغريبة السوريتين، صورة عن المقتلة والتغريبة الفلسطينيتين، وكان ضحايا النظام الفلسطينيون السوريون، موتهم واعتقالهم وهجرتهم المزدوجة، أبلغ مثال على هذه التقاطعات.
أما في إسرائيل فكان القلق من الربيع العربي، والاطمئنان إلى الثورة المضادة، تأكيدًا على فلسطين التطلع ضد فلسطين الشعار. مع ذلك، كانت علاقة إسرائيل مع الربيع العربي أوضح في سياقات أخرى، في دول أنتجت ثوراتها المضادة أنظمة أقرب إلى إسرائيل من أي وقت مضى، وتساهم الآن في الإبادة المستمرة في غزة.
منذ لحظات الثورة السورية الأولى، أظهرت شعاراتها ومساراتها التقاطعات والتشابكات العميقة بين الاستبداد والاستعمار
أما في سوريا، فالواقع كان مختلفًا (رغم إقرار الإسرائيليين المتكرر بارتياحهم لبقاء النظام على الحدود)، حيث انخرطت حركات مقاومة لإسرائيل في الدفاع عن نظام الأسد، وأصبحت المخاوف الإسرائيلية من "التهديد الإيراني"، سواء البلاغية أو الحقيقية، مرتبطة أكثر من أي وقت مضى بما يحدث في سوريا. تغيرت الأمور سريعًا، وأدى عنف النظام وحلفاؤه إلى اقتتالات داخلية، وساهمت طائفية النظام في خلق مشهد طائفي وأهلي لم يمثل تطلعات الثورة الأولى. وفي قلب ذلك كله، بقي الصراع بين فلسطين الشعار وفلسطين التطلع يشكل مسارات الثورة السورية ومآلاتها.
ترك هذا الوضع كثيرًا من السوريين في معادلة صعبة، إذ كان عليهم أن يروا حركات شاركت في مقتلتهم تقاوم إسرائيل وتدافع عن أرضها، كل ذلك في خضم إبادة مستمرة للفلسطينيين. وانحرف جزء من معارضي النظام، للأسف، في سجالهم ضد فلسطين الشعار عن إيمانهم بفلسطين التطلع والعدالة. كما استخفّت نخب مناصرة لفلسطين ومؤمنة بحق بالمقاومة بمآسي السوريين، واستمرت خطابات النظام ومنصاته في توظيف فلسطين لتبرير المقتلة السورية. مشهد جعل مقاربة سوريا وتطلعات السوريين أكثر تعقيدًا، لكنه مع ذلك أكد على ضرورة العودة إلى شعارات الثورة الأولى. فلا تزال العروبة، عروبة الناس والهموم والآمال، وفلسطين العدالة والتطلع، الإجابة الأوضح أمام هذه التعقيدات. لكن حتى الأهداف الاستراتيجية التي تبجح بها النظام وحلفاؤه، كما صار واضحًا الآن، كانت أقرب إلى شعارات الثورة وأحلام التغيير في سوريا مما هي إلى النظام والدفاع عنه.
لم يختلف عاقل على أهمية سوريا الاستراتيجية لحركات مقاومة إسرائيل في المنطقة. ولأنها كذلك، كان على من يقاوم إسرائيل أن يدافع عن سوريا ودورها، لا عن عائلة تحكمها منذ عقود بالبطش والدم. وكان عليهم أن يدركوا منذ عقد ونصف، كما أدركوا الآن مضطرين، أن رهن دور سوريا بتحالفات طائفية وعلاقات سلطة إقليمية هو ما يهدد هذا الدور، وليس ثورة شعبية تطالب بالعدالة والديمقراطية.
صارت الأمور أعقد بكثير الآن من مظاهرات بالورود والأغاني، ولم تعد صورة وردية عن المستقبل تتسع لتعقيدات ما يمكن أن يأتي. مع ذلك، فهذه الأحلام التي لا تزال قائمة اليوم بعد سقوط الأسد والسجون التي فُتحت أبوابها لآلاف من الأبرياء، هي صورة الثورة السورية النبيلة، أما المخاوف المحقة مما سيأتي، هي نتيجة رهانات غير أخلاقية وانحياز للبطش ضد الناس.
الآن، بعد أن تخلت الأطراف الطائفية والإقليمية التوسعية عن النظام، وبعد أن صار واضحًا أن انحيازات حزب الله غير الأخلاقية في سوريا عرضته لأكبر نكسة في تاريخه وحجمت من أي دور مقاوم له، وبعد أن بدأت إسرائيل باستغلال الاضطرابات في مصالحها التوسعية، صار حقًا أن يقلب السؤال: لماذا غامرت "أطراف المقاومة" بدور سوريا وسيادتها ومكانتها الاستراتيجية للحفاظ على أحد أسوأ الأنظمة السياسية في العصر الحديث؟