10-أكتوبر-2015

في باريس 2005 (Getty)

من المريح للكاتب ألا ينتظر نوبل، "الأسماء القريبة" تعيش مع التوتر والقلق والأعصاب المشدودة قبل إعلانها، ثم الحسرة إذا لم تأت، والضجيج والاهتمام الإعلامي بعدها. حالة كاملة من الإزعاج يعيشها الأديب النوبلي، أليس المجد نوعًا من الصخب؟

 للمرة الثانية، تُمنح "نوبل" لمن هم خارج عالم الأدب، بعد رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في الخمسينيات

ربحت الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسيفيتش الجائزة، بعد أعوام من ورود اسمها في قوائم التوقعات العالمية، وما أن تم الإعلان عن اسمها حتى بدأت الأصوات السنوية المعتادة في الحديث عن الأسباب السياسية لفوزها وأغراض الجائزة، الفقرة التأويلية نفسها التي تتكرر بنفس الحماس كل عام مع السخرية من أدونيس من انتظاره اللامجدي.

اقرأ/ي أيضًا: الرواية بحسب ميلان كونديرا

التأويل السياسي بلغ من الشطط ما كتبه يزن الحاج في "الأخبار" اللبنانية عن صفع اليسار، إذ كتب يقول: "قد يبدو منح «نوبل» هذا العام إلى ألكسييفتش بمثابة صفعة غير مباشرة لبوتين... لكنّ الصورة أكثر تركيبًا، فالصفعة ليست لبوتين بقدر ما هي موجَّهة للحركات اليساريّة المُستعادة في أوروبا والولايات المتحدة على جميع المستويات الأكاديميّة والفكريّة والأدبيّة". ما يحاول الحاج أن يكرس له هو هذه الفكرة الكلاسيكية عن العالم المقسم إلى معسكرين، لتكون جائزة نوبل من أدوات الهيمنة "البيضاء" على كل ما هو أحمر، الأحمر المتمثل في "بوتين"، ربما لم ينتبه الزميل أن روسيا الآن ليست الاتحاد السوفييتي، وأنها أصحبت دولة رأسمالية، وأن هذا التعسف التأويلي لدلالات الجائزة أصبح شيئًا كوميديًا، يصلح للصفحات الساخرة ومدمني المؤامرات الكونية.

وعلى كلٍّ، أليكسيفيتش ليست "أديبة" بالمعنى المعروف للكلمة، هي لا تكتب سردًا أو شعرًا، أو حتى تلك النصوص العصية على التصنيف، باختصار هي لا تكتب "خيالًا"، بل هي تعيد صياغة الأحداث الواقعية على لسان أبطالها، ما يسمى Narrative Nonfiction أو ما يعرف عربيًا باسم الصحافة الاستقصائية. هي إذن تحاول بلغة الأدب نقل حيوات حقيقية، وتجاربها الشخصية ومعاناتها العاطفية، جميل جدًا، ويمكن أن يترشح لجائزة كبيرة ومهمة مثل "البوليتزر" المشغولة بالشأن الصحفي، لكن ما علاقة العمل الصحفي وإن كان مكتوبًا بأسلوب أدبي بجائزة نوبل؟

المسافة كبيرة بين عالمين وإن اشتركا في إنتاج اللغة، أحدهما، الأدب، هو إعادة إنتاج الخيال. والآخر، الكتابة الاستقصائية، قوامها الحقيقة، الأدب غير معني بالحقيقة، ليس من مقوماته ولا هو مشغول بها، والجائزة للمرة الثانية تُمنح لمن هم خارج عالم الأدب، من بعد رئيس الوزراء البريطاني تشرشل في خمسينيات القرن الماضي على "خطبه" ولغتها الأدبية.

خارج التقييم الشخصي، لا بد من التعريف بالفائزة ومحاولة إلقاء الضوء على عالمها، ربما يختلف القارئ مع حكمي الشخصي. ولدت أليكسيفيتش عام 1948 في أوكرانيا لأب عسكري بيلاروسي وأم أوكرانية، وبعد تسريح والدها من الجيش، عادت العائلة إلى البلدة الأم لوالدها بيلاروسيا واستقروا في قرية صغيرة حيث عمل كلا الوالدين في التدريس. وبعد الانتهاء من الدراسة، ذهبت للعمل كمراسلة في صحيفة محلية بمدينة نارفول، ثم تابعت أليكسيفيتش في مهنة الصحافة وقامت بكتابة القصص القصيرة والتقارير الصحفية وبرعت في إجراء الحوارات الإنسانية مع شهود عيان على الأحداث الأكثر إثارة في تاريخ بلدها مثل الحرب العالمية الثانية، والحرب السوفيتية الأفغانية، وسقوط الاتحاد السوفييتي، وكارثة تشيرنوبيل، وبعد اضطهادها من قبل النظام البيلاروسي تحت قيادة ألكسندر لوكاشينكو الديكتاتوري، غادرت بيلاروسيا عام 2000، وتنقلت ما بين باريس، وجوتنبرج وبرلين، حتى تمكنت عام 2011 من العودة إلى بيلاروسيا حيث استقرت في مدينة مينسك.

انشغلت أليكسيفيتش بالحكاية في الحدث التاريخي، وبالمآسي الشخصية في الحدث الكبير

انشغلت أليكسيفيتش بالحكاية في الحدث التاريخي، وبالمآسي الشخصية في الحدث الكبير. الكتابة التي لا تقيم الأثر الاجتماعي، بل تضمنه على لسان شخصياتها وشهاداتهم الخاصة، أولى كتبها "ليس للحرب وجه امرأة" صدر قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي، عن تجربة النساء في الحرب العالمية الثانية، وقالت أليكسيفيتش أنها دونت شهادات آلاف النساء وتجاربهن الشخصية أثناء الحرب، في محاولة لتوثيق الدور النسائي المنسي في هذه المأساة الكبيرة.

اقرأ/ي أيضًا: تشارلز سيميك... فوتوغرافيا الحروب

ثاني كتبها الصادر عام 1989 "أولاد الزنك" عن أطفال الحروب، إذ قامت أليكسيفيتش، على مدى أربع سنوات، بجمع المواد لكتابها هذا، في أماكن مختلفة، منها أفغانستان، حيث درات رحى حرب الاتحاد السوفييتي الأخيرة، غير المعلنة. والأهم، أن الحديث يدور عن ذلك الرعب المستتر الذي كان يحوم في أجواء كل أسرة لديها فتى، خوفًا من أن يرسل فتاها إلى "الأفغان"، ويعود في تابوت من الزنك.

"مأخوذ بالموت" الصادر عام 1993، عن الذين حاولوا الانتحار وفشلوا، هؤلاء الذين فقدوا الرغبة في الاستمرار. أما أشهر كتبها على الإطلاق فهو "صلاة من أجل تشرنوبيل" الصادر عام 1997، وفيه سجلت شهادات من عاشوا الكارثة التقنية المخيفة، وتداعياته المميتة، وكيف ترك أثرًا نفسيًا مثلما ترك تشوهات جسدية.

آخر كتبها كان "زمن الأشياء المستعملة"، وفيه تعود مرة أخرى إلى موضوع انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث تمنح حق الكلام لمن بقي على قيد الحياة، والتحول الاجتماعي من طبقة الصفوة السياسية إلى مجرد منبوذين.