17-مايو-2017

نصر الدين دينيه (1861 - 1929)

في روايته "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل" (ضفاف ودار الاختلاف، 2016)، أعاد الكاتب سعيد خطيبي (1984) تقديم إشكاليات منظور الآخر للأنا، ومنظور الأنا للآخر، ومنظوره للواقع، بتوظيفه شخصيات تاريخيّة مبدعة، ومنظورها الأدبي والفنّي للواقع والمجتمع الجزائري، وذلك من خلال شخصيّتي إيزابيل إيبرهارت (Isabelle Eberhardt (1877 - 1904 المُراسلة والأديبة والرّحالة، من أصول روسية، وأمّ ألمانية، التي استقرّت في الجزائر وتنقلت بين مُدنها وبلداتها شمالا وجنوبًا، وعُرفت بترحالها وحبّها للصّحراء والحياة البدوية ولباس الفرسان العرب، وكتاباتها الأدبيّة عن ذلك.

يعيش بطل  "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل" بهويتين، كل منها تضيء الأخرى

الشخصيّة الثانيّة الرّسام الفرنسي نصر الدين دينيه (Étienne Dinet (1861 - 1929 الذي أقام في مدينة بوسعادة الجزائريّة، ورَسَم أشهر لوحاته بها وعنها. وهما الشخصيتان الموظفتان كمرجعين لتفكير ومنظور البطل/الراوي جوزيف في رواية "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل"، الذي تعلم الرّسم من لوحات دينيه ولكن يختلف معه في منظوره النّمطي في مجموعة من لوحاته، واكتشف إيزابيل من خلال نصوصها، واستلهم منها منظورها الأدبي الذي أنقذه من ازدواجيّة الأنا والآخر، فهو مثلها أوروبي يعتنق الإسلام، ويعيش في الجزائر منذ عقود، ويُعايش أحداثها وتحوّلاتها.

اقرأ/ي أيضًا: محمد عبد النبي.. أن تكتب الخرس

إنّ تيمات رواية "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل" في هذا النصّ السّردي تدور حول شخصية جوزيف رينشار ذلك الفرنسي الذي قدم إلى الجزائر منذ 1951، ويعيش فيها إلى ما بعد الاستقلال، إلى التسعينات من القرن الماضي، فيعيش بهويّتين، هويّة الفرنسي وهويّة الجزائري، كما يقول: "أعيش بهويّتين، بوجهين، الأوّل لفرنسي قروي قديم، خاض حربًا عالميّة، والوجه الثّاني لجزائري دخيل، شارك في حرب تحريرية". 

من خلال شخصيّة جوزيف تقارب الرواية إشكالية المنظور بين الأنا والآخر، والعلاقة المركّبة بينهما التي تُثير القلق والحيرة والازدواجيّة، حتى اكتشف شخصية إيزابيل إيبرهارت وكأنّه اكتشف نفسه، واكتشف روح التوازن والانسجام في شخصيّته "أربعون عامًا قضيتها في التسكّع، في معاركة نفسي، وفي البحث عن وجه لي، أربعون عامًا مرّت ونار الانتظار تلتهم قلبي ببطء، اكتشفت إيزابيل إيبرهارت بعد أربعين يومًا من قراري بالبقاء هنا، ثم أكملت أربعين عامًا أخرى أقرأ لها وعنها، أحاول تخيّل حياتها لو عاشت بجنونها وشغفها حتى الأربعين"، فألهمه ذلك عشق شخصيّتها وعشق نصوصها، وكما استلهم منها شغفها بالحياة، استلهم منها منظورها النّقدي للظواهر والتحوّلات دون صوَر نمطيّة أو عنصريّة. 

ومن خلال هذا العشق والتّشابه في الشخصيّة بين جوزيف وإيزابيل، اكتشف ذاته من جديد، عند العمل على نقل نصوصها في لوحاته الفنيّة، ومع أوّل مخطوط في بيت مصطفى "الموظف السّابق في البلدية، قايضه إيّاه مقابل مروحيّة كهربائيّة، أعدتُ ترتيب أوراق المخطوط، الذي سَهَت عنه المطابع، دققته ثم قُمتُ بتحويل ستّة فصول منه إلى ستّ لوحات تشكيلية"، وهي التي قضت في فيضان العين الصفراء سنة 1904، وتركت أوراقها الأخيرة تحت الأنقاض، وهذا التعلق بالرسم هو الوجه الآخر لاكتشاف الرسام نصر الدين دينيه، وكأنّ سعيد خطيبي من خلال البطل/الراوي وهو يعترض في منظوره على التصوير النمطي للأنا من الآخر، في لوحات نصر الدين دينيه عن مجتمع بوسعادة، كنموذج للمجتمع والفضاء الجزائري، فهو مع ذلك يُقدّم منظوره النّقدي بصورة صادمة من خلال منظور التحوّلات والأحداث التي طرأت على المجتمع في دولة الاستقلال.

يرى كلّ شيء فيها ينهار، كما تنهار جماليات بوسعادة التي وصفتها إيزابيل إبرهاردت بالملكة الشّقراء، التي تستلقي بعشق، بين المنحدرات والشلالات وحدائق أشجار اللوز العطرة التي تذرف قطرات ندى الربيع. "كل شيء ينهار أمام عيني، كقلعة من رمل، جسدي وذاكرتي وبنايات هذه المدينة المنطوية على نفسها، صرت أشعر بغربة لما أمشي في شوارعها الضيّقة"، وهو يرى تلاشي تلك الجماليات في الأمكنة والمجتمع التي وصفتها الأديبة في نصوصها، والتي من خلالها اكتشف جوزيف نفسه وتوازنه، ولكنّه عاد لقلقه وتساؤلاته مع توالي الأحداث والتحوّلات. "لو عادت إيزابيل إلى بوسعادة اليوم لكتبت شيئًا مختلفًا، فهذه المدينة صارت ملكة صهباء منتهكة الشّرف، تنام على حافّة الوادي كي لا تنظر إلى نفسها، ولا ينظر إليها المارّون، أشجار اللوز فيها يبست أوراقها وسُلب منها عطرها". 

"أربعون عامًا في انتظار إيزابيل" رواية تقارب إشكاليات ثقافيّة وإنسانيّة تتعلق بالعلاقة مع الآخر

هذه التحوّلات كانت ذروتها أزمة التسعينات، التي أجبرته على مغادرة البلاد خوفًا على حياته وممتلكاته، التي أنذرت بعشرية مأساويّة في الجزائر، وهو يحمل تساؤلات وإشكالات القلق المتواصل عن العلاقة بين الأنا والآخر، وبين الصّورة الجماليّة التي عشقها وتلقاها من نصوص إيزابيل ونسخ الواقع المتحوّل، تبقى الأسئلة بين الخوف والأمل، بين الألفة والنّقد، بين العلاقة الإنسانيّة بالعالم والعلاقات العصبيّة الطارئة، وهذا ما يشعر به الكاتب نفسه الذي يعيش هذه الحالة بشكل مُقابل، فهو يعيش في الغرب منذ مدّة، فهو يعيش الحالة، ولذلك تمّ توظيف اسمه في الرواية كذلك: "سعيد خطيبي وعدني بالاتصال بي، وزيارتي في البيت في شوازي لو روا، أو تحديد موعد للقاء بيننا... لكنّنا فعلًا شخصان منهزمان، هزمتنا أنانيتنا"، فسعيد خطيبي هو الوجه الآخر لإشكالات الاستشراق والاستغراب، التي تختزل علاقة الأنا والآخر، حيث يُهزم الإنسان يوميًا في أحداث العالم وتحوّلاته بفعل الأنانيّات العصبيّة حيث يتجاوز السّلام والحريّة للإكراه والعنف والصوَر النمطية.

اقرأ/ي أيضًا: فيروزة دوماس.. "خنده دار" بالفارسية

إنّ رواية "أربعون عامًا في انتظار إيزابيل" ليست رواية تاريخية أو رواية سيرة كما توهّم البعض من العنوان، وحاول نقدها من هذا المنطلق، ولكنها رواية منظور واقعيّة قامت بتوظيف فنّي لشخصيّة إيزابيل إيبرهارت في مقاربة إشكاليات ثقافيّة وإنسانيّة تتعلق بالعلاقة مع الآخر، والتّمايز بين الصوَر النمطيّة والصوَر الواقعيّة التي تحكمها التحوّلات والأحداث، لذلك فأيّ قراءة للرواية ترتبط بتوقع المتلقي المعرفي هو قراءة مجحفة للنص، لأنّ اكتشاف تيمات جديدة للنص لا يتوقّف على تيمة مفترضة للقارئ أو النّاقد من خلال العنوان، في حضور اسم الرحّالة إيزابيل إيبرهارت، في عنوان الرواية، فحضورها هو حضور سردي ضمن خطاب وتيمة النصّ، لأنّها تمثّل المرجع الأدبي والفنّي والمنظوري للبطل، وبتوظيفه لهذه العلامات التّاريخيّة يسرد منظوره للواقع والإشكالات الثقافيّة، وهذا في رأيي ما استعمله الكاتب سعيد خطيبي بأسلوب فنّي وسردي في روايته، يجعل المتلقي في متعة جماليات ذلك التّوظيف لشخصيّة تاريخيّة أو الشّغف للتعرّف واكتشافها واكتشاف نصوصها إذا لم يكن يعرف عنها بما يكفي للوصول إلى هذه الجماليات في الرواية، فيقوم مثل بطل الرواية في انتظاره بشغف لإيزابيل إيبرهارت.

تبقى أسئلة المنظور معلّقة بين التعصّب والتسامح، كما يبقى الصّراع بينهما متواصلًا مع الأمل في بقاء آفاق التّسامح في التّعامل مع الآخر مفتوحًا، كما بقيت الأسئلة مفتوحة عند بطل الرواية كما أرادها الكاتب سعيد خطيبي في نهاية الرواية: "قد يرجمونني بتهمة الاستشراق ويبصقون عليّ ويتبوّلون على رسوماتي وعلى اسمي، ويتهمونني بالعمالة والفجور، وربّما سيحبّونني، يُحدّقون طويلًا في لوحاتي، يُشيدون بها"، كما تساءلت إيزابيل عن كتاباتها هل ستضيع في ريح الجنوب، أم يقرأ أحد كلماتها يومًا، و كم أولئك الذين ستصلهم وسيتعرّفون على بلداتها الصحراويّة، فيستمتعون مثلها بألوان السّطوح وفساتين الشمس عند الغروب، ومشاهد العابرين والتّائهين في الصّحراء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في صندوق بريد فرجينيا وولف

جبور الدويهي.. حميمية السرد