18-أغسطس-2017

صورة تقريبية من اليمن (محمد حويس/أ.ف.ب)

تعبرهم السيارات وتلفحهم شمس النهارات الطويلة، لا يملّون من تكرار نداءاتهم على مسامع العابرين طوال اليوم فلا بد أن يتخفّفون من بضاعتهم كي يستطيعوا جلب أخرى. وسواء جاؤوا من أماكن بعيدة أو ضاقت عليهم "المحروسة" بوظيفة مستقرة، فإن شوارع القاهرة جمعتهم في رحلة البحث عن الرزق، بعد أن أسقطتهم الحكومة من حساباتها. وبدلًا من توفير بيئة آمنة تساعدهم على تأدية عملهم المرهق، أطلقت السلطات المحلية رجالها وراءهم لتنغيص حياتهم بالأذي المجاني ووقف الحال.

يعرض "السرّيحة" الذين نلتقيهم في إشارات المرور وعند مطبات الطرق السريعة، بضاعتهم على راكبي السيارات ويعملون في ظروف صعبة

مناديل ورقية، لعب أطفال، جرابات موبايل، غطاء دركسيون، ولّاعات، مقصّات، عطور، نظارات، ساعات، حلويات، ذرة مشوية، بوظة، عصائر، تين شوكي.. هي بضاعة هؤلاء "السرّيحة" الذين نلتقيهم في إشارات المرور وعند مطبات الطرق السريعة. شباب وفتيات وعجائز وأطفال يعرضون بضاعتهم على راكبي السيارات، يعملون تحت الشمس في الشارع.

وعلى الرصيف هناك صنف آخر من الباعة غالبيتهم موظفون وخريجو جامعات يفترشون الأرض ويعرضون بضاعتهم على المارة، غالبًا بسعر موحّد. يشترك "السرّيحة" وباعة الأرصفة في همّ واحد يطاردهم في لقمة عيشهم: "بوكس" الشرطة وسيارة البلدية. مرأى تلك العربات وبداخلها رجال الدولة الغلاظ، يمثّل لهم رعبًا وبعبعًا يؤرقهم في منامهم ويقظتهم.

اقرأ/ي أيضًا: حكاية بائع الفشار صاحب الصوت الإذاعي الساحر

إشارة مرور جسر السويس (شرق القاهرة) واحدة من أشهر المناطق التي يكثر بها "السرّيحة"، وجميعهم يعرفون بعضهم البعض ولا يسمحون لأي غريب باختراقهم والبيع معهم، كما أنهم لا يتجولون خارجها. محمود موسى واحد من هؤلاء، يحمل في يديه عطورًا وفوّاحات سيارات وعلى كتفه حقيبة كالحة اللون تحمل المزيد من بضاعته. يقول محمود إنه يحصل على البضاعة من سوق التوفيقية (سوق شهير في وسط القاهرة) وأحيانًا يتعامل مع المصانع مباشرة ولكن بكميات محدودة، وفي أحيان أخرى يقوم بعض الشباب بتركيب العطور منزليًا وبيعها لصالحهم أو تشغيل عدد من البائعين تحت أيديهم.

قدم محمود من محافظة بني سويف (124 كم جنوب القاهرة) إلى العاصمة قبل سنوات من أجل دراسته الجامعية، وبعد حصوله على بكالوريوس الألسن من جامعة القاهرة بتقدير مرتفع  لم يجد عملًا يتناسب مع ما درسه، فقرّر العودة إلى محافظته الجنوبية التي صنّفها تقرير التنمية البشرية الصادر عن مجلس الوزراء في 2013 فى المركز الـ 24 على مستوى محافظات الجمهورية من حيث نسبة الفقر وجودة الخدمات الأساسية. هناك لم يجد محمود عملًا أيضًا، ولم يعد أمامه سوى الرجوع إلى القاهرة والبحث عن عمل، أي عمل. بعد فشله في العثور على وظيفة "محترمة"، قرّر النزول إلى الشارع بناء على نصيحة أحد معارفه في الحي الشعبي الذي يسكنه. يستيقظ في السادسة صباحًا على سطح إحدى العمارات العشوائية "حيث يمكنك النظر إلى أكوام من البيوت المزنوقة، قبل أن تطالع عينيك تلالًا جبلية يختفي وراءها عالم وبشر لا تقابلهم سوى في إشارات المرور"، هكذا يقول لـ"الترا صوت". يكسب محمود 90 إلى 120 جنيهً في اليوم الواحد، ولكن هذا مرهون دائمًا بابتعاد الشرطة ورجال البلدية عنه، لأنهم إذا ما أدركوه سيستولون على بضاعته.

"السرّيحة" يعرفون بعضهم البعض ولا يسمحون لأي غريب باختراقهم والبيع معهم ويتمركزون في مناطق محددة

المشكلة الأساسية لهذه الفئة العاملة والتي عجزوا عن حلّها هي "البوكس"، فالمطاردة هي الأسلوب الوحيد الذي تعترف به الشرطة في تعاملها معهم، وما إن يتم إلقاء القبض عليهم حتى تتحفّظ الشرطة على ما بحوزتهم من أموال. ما جريمتنا؟ وما الذنب الذي ارتكبناه؟ يتساءل "السرّيحة" باستنكار. وإذا كان الطفل أحمد رضوان، ومثله كثيرون، قد قرّر العمل في الشارع ومسح السيارات برغم المخاطر التي تنتظره، فهناك آخرون قرروا العمل بأمان مقابل التنازل عن جزء من مكسبهم للحصول على هذه الحماية، وذلك بالانضواء تحت راية واحد من "المِعلِّمين" الذين يستطيعون توفير الحماية بعلاقتهم مع رجال الشرطة.

أحد هؤلاء "المعلّمين" هو محمد صلاح، شاب ثلاثيني تخرّج من كلية الفنون الجميلة وبدأ سرّيحًا منذ حصوله على الشهادة الجامعية، والآن يعمل لديه 20 فردًا أعمارهم ما بين 10 إلى 30 سنة. يمتلك محمد شقة بمساحة 150 مترًا في مدينة السادس من أكتوبر، ولديه خطيبة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة العليا. لا أحد يعرف مهنته الحقيقية سوى من يعملون لديه. يستيقظ في السادسة صباحًا ليتناول كوب عصير "فريش"، ثم يذهب لتسليم البضاعة إلى عماله، ويعود ليلتقي بهم قرب الثامنة مساء ليوزّع عليهم نصيبهم من المبيعات. الموبايل هو وسيلة الاتصال بينه وبينهم طوال فترة العمل، وفي حالة القبض على أحدهم يتولّى مهمة إخراجه بحجة أنه قريب له، وبالطبع تكون وسيلة التفاهم مع الشرطة هي مسؤوليته، أما التكاليف فتُخصم من أرباح الجميع.

اقرأ/ي أيضًا: "ست بمية راجل".. بائعات على رصيف مصر

أحمد رضوان ( 12 عامًا) لا يزال يدرس بالمرحلة الابتدائية بعد أن رسب مرتين، هو أيضًا من "السريّحة"، يبيع أشياء بسيطة في إشارة المرور بجانب مسح السيارات. يقول أحمد إن أفراد أسرته غير راضين عن عمله، خوفًا عليه من الشرطة خاصة أنه قُبض عليه من قبل وفي المرة التالية سيكون مصيره الذهاب إلى إصلاحية الأحداث. ولكن الطفل يتشبث بعمله سعيًا وراء مكسبه الذي يجنيه من خلاله: "80 جنيه ليس مبلغًا كبيرًا في هذه الأيام ولكنه أفضل من لا شيء. يمكنني بهذه الطريقة أن أصرف على نفسي وأدفع مصاريف الدروس الخصوصية كي أكمل تعليمي"، يقول أحمد.

مشكل "السريّحة" الأساسي مع "بوكس" الشرطة لكن الحل معهم هو التعامل مع أحد "المعلّمين" الذي يتكفل بالتنسيق مع الأمن بمقابل

لا يغيب واقع الاقتصاد المتعثر وتدهور الحالة المعيشية للمصريين عن حديث "السرّيحة"، حتى وإن لم يشيروا إليها صراحة، فمعدلات التضخم القياسي التي يعانيها الاقتصاد المصري حاليًا تسبّبت في تراجع حركة البيع مثلما اضطرت بعض المصريين إلى استخدام طرق وعرة من أجل البقاء على قيد الحياة.

بعض "السرّيحة" يتخذون من هذه المهنة مصدرًا آخر لزيادة الدخل، مثل صلاح عبد الرازق (26 عامًا) الذي يعمل فرّاشًا في إحدى المدارس صباحًا، وبعد الظهر يقف في إشارات المرور لبيع المناديل الورقية ولعب الأطفال وتلميع السيارات. يقول صلاح إن راتب الحكومة لا يكفي نفقات المعيشة المتزايدة يومًا بعد يوم وليس أمامه سوى هذا العمل الذي يدرّ عليه دخلًا يساعده في تلبية احتياجات البيت، مشيرًا إلى أن بعض الناس يمنحونه أموالًا في شهر رمضان كنوع من الصدقات بدون شراء أو تلميع للسيارة وآخرون يمطرونه بوابل من الجمل المحرجة بمجرد الاقتراب منهم.

في أوقات إذاعة مباريات كرة القدم المهمة وأثناء مرور الموكب والتشريفات يتوقف عمل "السرّيحة" نسبيًا، كما يقول رجب عبد العظيم (24 عامًا وحاصل على دبلوم تجارة)، الذي يفسّر ذلك بقوله إن التشديدات الأمنية في محيط ستاد القاهرة ومنطقة القصور الرئاسية تشلّ حركة المرور تمامًا وتجعل ركاب السيارات "على أعصابهم" لا يحتملون أن يأتيهم بائع يعرض عليهم بضاعتهم.  ويستطرد رجب في حديثه مشيرًا إلى بُعد نفسي وثقافي يحكم طبيعة عمله وزبائنه، فيؤكد أن غالبية زبائنه من الشباب الذين يتحدثون معه بحرية "لأنهم يفهمون لغة الحوار ويرأفون بحالتهم، ويا حبذا لو كانت بجوار أحدهم في السيارة خطيبته أو صديقته، فسوف يشتري ويدفع بسخاء خوفًا من الإحراج". أما "العواجيز" فهم متعبون، لا يفهمون لغة "السرّيحة" وبخلاء جدًا، كما يقول رجب، لذلك فهو لا يفضّل البيع لهم ولا الحديث معهم.

ترك رجب زوجته في بني سويف، وجاء إلى القاهرة كي يستطيع تدبير احتياجات أسرته الصغيرة، ويحاول المواظبة على زيارة أهله وزوجته أسبوعيًا للاطمئنان على أحوالهم قبل أن يعود إلى إشارات المرور بحثًا عن رزقه ورزق المولود الذي ينتظره بعد شهور قليلة. أثناء الحديث مع رجب، كان هناك رجل مريض يجلس على كرسي متحرك ومن خلفه زوجته تدفع الكرسي، وكان كلاهما يهذيان بكلمات غير مفهومة. أشار رجب إليهما مؤكدًا أن هذا الرجل قادر على المشي والحركة لكنه يحاول استدرار عطف الناس، "هو يكسب جيدًا لكنه ينفق أمواله على المخدرات"، وعندما حاولتُ الحديث معه هو وزوجته انهالا عليّ بالشتائم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من الزمن والفقر وهموم الناس.. "العرضحالجية" اشتكوا

"عم محمد الصُرماتي".. حكايات إسكافي السيدة زينب الأخير