22-نوفمبر-2021

لوحة لـ إرنست فيلهم ناي/ ألمانيا

إلى كريمة:

لم تعودي موجودة، صرتِ فكرة

  • رحلت في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2019

لا تنسى.. لكن شيئًا من الفتور يحلّ بك

  • رولان بارت من "يوميات الحداد"

كل الأشياء كما هي، في أماكنها، ثابتة كما كانت دائمًا: الشمس في السماء، الأزهار في الخارج تتفتح، الهواء يعبرُ الأشياء، الشارع مزدحم، النافذة تراقب، والحياة تمضي كيفما شاءت مجرياتها، والبيت في مكانه، هناك حيثما كان دائمًا. ماذا لو أن البيت بعد أن غادره الجمع الباكي، قام عن مكانه، وسار، حيثما شاء؟

كانت تعتني بالزرع ، تسقي نباتاتها، لحظة فتحتُ الباب، وفاجأتها بقدومي. عانقتها، ولم تكن تحمل رائحة السرطان، وإن كان فيها ووهبها شكلًا خاصًا. عادت قريبًا من رحلة علاج شاقة، صارعت فيها سرطانها، الذي قالت لي عنه بأنه ما هو إلا الحزن المخبأ بعناية في مكان ما في الجسد. أصدّقها؛ فلماذا قد يكذب المريض، وهو يعرف يقينًا أنه سيموت قريبًا؟

ضممتُها، واختبأت فيها، وهي تسحب مني حزني الذي خرجتُ به من منزل عمتي، المنزل الذي صارت رائحته برائحة الموت والعزاء. مسحت حزني المدسوس، الذي خبأته بعناية بعد خبر وفاة ابن عمتي، ولمَسته بيدها الدافئة. فزعتُ من معرفتها وانكشاف حزني، عرفتْ حقيقة صداقتي، واستمعت لنحيبي، وحكاية قلتها لها حوّلتها لرثاء خاص، يليق بابن عمتي، الصديق الراحل، الذي قرر أن ينزع نفسه من الصورة الجماعيّة، ويمضي في وحدته، حيث لا شيء.

في غرفة المعيشة بمنزلها، قضيت اليوم معها، نحكي كل ما فاتنا سرده، ونستعيد الأحاديث القديمة. أسألها عن العلاج، وأنظر فيها جيدًا، تجيبني بحكاية سردية، لا أحد غيرها يتقن الحديث بالشكل الذي تمارسه هي. إنها حكّاءة قديمة، تذكّرني بالجدّات اللواتي خلقن من الحكاية، وبأغاثا كريستي، وهي تنسج سيرة بوليسية، توقعنا في شباكها. كانت تحكي عن الألم فيصير لكَ مجرد حدث عاديّ.. تنزع الغطاء الذي يُغطي رأسها الفارغ من الشعر، وتبتسم. تخبرني أنها اعتادت وجهها الجديد، صارت تألفه، ففي سنتها السادسة تقريبًا من صراعها مع السرطان، باتت تعرف أن الشعر بمقدوره أن ينبت دائمًا، وأنه دليل حياةٍ مستمرة. ثم تقفز لتحكي عن دواء، وما يسببه لمعدتها من انتكاسات، لا بد منها. أرى جلدها الشاحب، نحولها، وعجزها عن الجلوس. ومن ثم تغفو فجأة، بعد ابتلاعها لحبّة دواء، وهي تحكي لي حكاية قديمة هي بطلتها. أتركها في نومها، وأجوب المنزل. أحفظ التفاصيل، وأستلقي على الكنبة، أكتبُ. يلازمني القلق، فأنهض، بخفّة أفتح باب غرفتها، أنظر فيها؛ تلك الممددة النائمة، يرتفع ويهبط بطنها. يهدأ قلقي: تتنفسُ، حيّة لم تمت.

يهبط الليل سريعًا، أعود للبيت، محتفظة بذاكرة مرئية مؤقتة، أخاف فقدانها في أية لحظة. تمضي الأيام، وأكبرُ، دون أن أنسى أنه يلزمني محادثتها كل يوم، كفعلٍ لازم الحدوث، والممارسة. أتبادل الرسائل معها، أخبرها عني، أنا الحائرة، والهائمة، أنا التي تندفع، ثم تعود ببكاء متكدس في الجهة اليسرى من صدرها. وفجأة تمرض مجددًا ـ وإن كانت ما هي إلا حالة مكررة لاستعادة المرض، وتكراره ـ وتضعفُ، فأبدأ بخلق الأكاذيب، وقصّها عليها؛ لتقاوم: تعرفين اشتغالي على كتاب شعريّ، لابد أن تكوني أول من يقرأ الكتاب؛ فأنت دائمًا أول من يقرأ لي.. أرجوك، عديني أن لا تضعفي، أنظري، هذا الوجع المتضخم اليوم، سيزول غدا. أعرفك جيدًا، محاربة شجاعة مقاوِمة، لن تسمحي للسرطان بهزيمتك. دعيهم يقتطعوا ما شاؤوا من الأعضاء، أنت معلمتي، وبطلتي، لا يمكن لك أن تستسلمي

لم تكن بي شجاعة تحرير مسودات الديوان الشعري، ولا مجموعة المقالات التي جمعتها، وبقيت أشذّبها طويلًا، حتى قررت التخلص منها، ورميها.. لم أكن بشجاعتها حتى أواجه قلقي، ومع هذا كانت تعجبها كذباتي، وتستمر في المقاومة، مرددة: لم يحن بعد أوان الاستسلام، وأطمح للفرح بكتابك

لكنها استسلمت، في السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2019، تلك المناضلة القوية، استسلمت بعد أن غلبها الوجع، وتضخّم. لم يكن في جسدها، كان دائما في مكان آخر، وعرفت أنه كان في رأسها. كان خيبة قديمة نتنة، شممتُ رائحتها في ليلة عزاءها. عبرت الباب، وكانت الخيبة قد تحررت أخيرًا. أيعقل أنها احتفظت طوال الأربعين عامًا بخيبةٍ قديمة، عجزتْ عن تجاوزها؟

كانت ملفوفة في لحاف أبيض، ممدة في غرفة المعيشة، والكل حولها يبكي، وينوح. دخلتُ، واختنقت برائحة الخيبة، وحدي من شممت الرائحة، وتظاهرت بالبكاء. بكيتُ لأن الفعل الوحيد اللازم الآن هو البكاء. الجميع ينظر في وجهي، وأنا أحاول فهم ما يحدث: وقوع الموت. يقع الموت أو يحدثُ، بطريقة فجائية، مثيرة بدرجة، تربك أدمغتنا، ثم كل ما نستحضره هو المعنى الوحيد الذي نعرفه عن الموت: غياب الكائن، والجسد عن أنظارنا؛ فنبكي. نبكي رؤيتنا للأيام دون حضور هذا الغائب، نبكي لافتقادنا اتصالنا المرئي المحسوس الوحيد. إننا نعجز قبالة الموت، فتصير صورة الفقد واسعة في أدمغتنا، حد أننا ننظر للميت وكأنه جزء من كل شيء، تم انتزاعه بالقوة؛ فتسبب بحدوث فراغ، نعجز عن سدّه.

انحنيت أبكي متحسسة الجسد الملفوف في اللحاف الأبيض، دون أن تنكشف ملامح وجهها. وفي أثناء بكائي فكرتُ طويلًا بمحادثاتي معها، وكذبتي بشأن الكتاب، وكتاباتي التي أركض بها  لأريها، وحكايات مشاريعي، وأحلامي، وحتى مغامراتي، تلك التي كانت تعرف أنني أخبئها عنها، ولكنها تعثر عليها بطريقة ما.

حتى انكشف وجهها، ونظرت فيها، ولم أتعرّف عليها. حاولت استعادة كل صورها في ذاكرتي؛ لكنه رأسي قرر الانفصال عني. يحدث كثيرًا أن أفقد ملامح الآخر في ذاكرتي، إنه في الذاكرة باق؛ لكنها ذاكرتي من تعجز عن استدعائه، فيصير ضبابًا. "ألم تتعرف على جسد المرأة" (رولان بارت). إن غرائبيّة نكران الذاكرة، أو انفصالها عنك لحظة وقوع الحدث، يجعل من الموت حدثًا غير عادي، ويصيبك بحالة من الخرس، والتصلّب. كنتَ تعرف هذا الميت، وأنت متيقن بمعرفتك الكلية له؛ لكنك فجأة، صرت تحاول استدعاءه، واستعادته. لا يستعيد دماغك ولا  تستعيد ذاكرته عافيته بعد انقضاء أيام العزاء، ولا حتى تكرار رؤيتك لصور ميّتك، أو القراءة الطويلة في رسائله؛ فذاكرتك تعمّدت الانفصال، لتنقذك ربما، أو لتبقى تعذّبك أمدًا طويلًا؛ وليتوالد فيك حدادك الخاص. أنت الذي ستمضي بك الأيام، حاملًا حدادك، عاجزًا عن سرده، مختنقًا بكل أسباب البكاء، والحزن، محاولًا التحدث أو الكتابة عن عظمة سرديتك الحزينة الحداديّة.. تشعرُ به – حزنك - ينضج، ويتضخم فيكَ؛ لكنك عاجز عن قطفهِ، فيتدلى منك

"إذًا يعود الانفعال. طازجًا كما كان أول أيام الحداد".

الأشياء تنسحبُ من أمامك، البرد يسكن كل الأشياء، الجميع في المكان، في مكانه تحديدًا، كل في مكانه؛ إلا واحد غائب، غير حاضر، لا موجود... الموت ليس حدثًا كارثيًا وإن بدت أشكاله كارثيّة. ما هو إلا تحوّل أو صيرورة حالة لحالة ما. مثلما تنمو يرقة، أو يبدّل ثعبان جلده. تتحوّل الكينونة في الحدث الواقع إلى شكل لا مرئيّ، متماهيا مع العدم، فتصير الكينونة عدمًا؛ وهكذا يصير الموت مرعبًا، والفقد كارثيًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القصيدة الصفراء

وجهي مُذ لامَسْتَه لا يُغنّي