31-أغسطس-2021

مكتبة تراثية (Getty)

سواء كنا مستائين أم ممنونين مِن تقاطعات بعض طباعنا مع الآخرين، فثمة عادات نشترك بها مع غيرنا إن كانوا في الجوار القريب أو من ابتعدنا عنهم عشرات الكيلومترات، أو مِمن كانت قد فُصلت بيننا وبينهم قرونٌ وأزمان، ومِن تلك النقاط المشتركة بيننا وبين الكثير من عشاق القراءة في العالم، هي عادة الانجذاب لكتبٍ بعينها، أو إعادة شراء الكتاب نفسه أكثر من مرة.

 ثمة كتب لها سحر خاص وجاذبية لا تقاوم كما كان حالنا مع كتب مثل نهج البلاغة والملحمة الكردية مم وزين

وفيما يتعلق بشراء نفس الكتاب، فإن لم تخني الذاكرة أذكر بأن أول مرَّةٍ اقتنيتُ فيها كتاب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب وقرأته كاملًا كان في بيروت عام 1995، وكنتُ قد اشتريت تلك النسخة المستعملة من سوق الأحد، وفي العودة إلى سوريا أخذت الكتاب معي إلى القرية ولا يزال هناك، ومن ثم في إحدى زياراتنا لمكتبة دار الشرق العربي في العبارة القديمة وسط مدينة حلب، وجدتُ نسخة مرتّبة ونظيفة من نهج البلاغة فمن دون تردُّد وضعتها بين الكتب التي اشتريتها من المكتبة إبّان موسم التخفيضات الكبرى لمكتبة الدار، ومرت الأعوام وعلى الأغلب كانت بعد 2005 أي أثناء دراستي في كلية الإعلام بجامعة دمشق، فزرنا معرضًا سنويًا كانت تقيمه المستشارية الإيرانية في العاصمة السورية، فلمحت حينها من بين الكتب المعروضة نسخة فاخرة من نهج البلاغة إلى الدرجة التي أبهرتني طباعتها فاقتنيتها بعد المساومة مع المشرف على بيع الكتب بما أن سعره كان وقتها مرتفعًا مقارنةً بإمكانياتنا المادية المتواضعة جدًا، ولكن ويا أسفي على النسخة تلك فلم أحظَ لا بالنظر إليها مليًا، ولا حتى بالتمعن في أحرفها النافرة، ولا في قراءة محتوى تلك النسخة، لأني فقدتُ الكتاب في الكرنك الذي أقلني حينها من دمشق إلى حلب.

اقرأ/ي أيضًا: متاهات الكتب وحياة القراءة

الأمر نفسه تكرر مع كتاب "مَم و زين" لأمير الشعراء الكرد أحمد خاني، فمع إني استمعت إلى الملحمة عشرات المرات من خلال صوتي الفنانين الراحين جميل هورو، وعبدالرحمن عمر (bavê seleh) ولكن أوّل ما قرأته مكتوبًا كان على شكل قصة وكان قد ترجمها الراحل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي إلى العربية، وهو من منشورات دار الفكر المعاصر على ما أعتقد، والمرة الثانية التي رأيتني فيها أقتني الكتاب بما أن الاسلوب والترجمة مختلفتان هذه المرة، فكان من ترجمة وتحقيق الشاعر والروائي الكردي جان دوست، وهو من منشورات دار الكنوز الأدبية، والنسختان العربيتان قرأتهما في سوريا، أما ديوان أحمدي خاني "مم وزين" بالكردية فقرأته كملف PDF من اللابتوب، بينما النسخة الكردية التي قرأتها في تركيا ككتاب مطبوع وأنا غير نادم عليها، بل واستمتعت بها جدًا فقد كان الديوان منقولًا إلى الحرف اللاتيني من قِبل الروائي جان دوست وهو مِن منشورات أفستا.

وحيال رغبة قراءة الكتاب نفسه أكثر من مرة وبأكثر من لغة، صدق من قال بأن الترجمة أشبه بتذوق الأشياء بأكثر من لسان، والدليل على ذلك هو تلهفي على قراءة نفس الكتاب بلغة أخرى بالرغم من أنه سبق لي أن قرأته باللغة الأصلية، كما حصل مع بعض الغربيين الذين حاولوا تعلم العربية من أجل قراءة ألف ليلة وليلة، ومنها أنه في مروري في تاريخ 29 آب/أغسطس 2020 على كل من مكتبة الشبكة العربية في الفاتح ومكتبة نوبهار في لالالي بإسطنبول، اقتنيت خمسة كتب لكي أقرأها في فترة الزمن الذي أقطعه يوميًا في وسائط النقل إلى جانب الكتب الإلكترونية المتوفرة في النت إذا ما احتجت إلى ذلك، ومن الكتب الورقية التي ابتعتها في ذلك المشوار كان: كتاب "القراءة رافعة رأسها" لعبد السلام بنعبدالعالي، و"اعترافات ولعنات" لسيوران ترجمة آدم فتحي، والكتب الأخرى كانت كردية منها "باقة من الشعر الألماني" ترجمة د. عبدالله انجلكان، وكتاب لعبد الرحمن باناك ينتقد فيه المجتمع الكردي في موضوع التقاعس اللغوي وإهمالهم للغتهم الأم وحرصهم على لغة الآخر المعادي للغتهم وعنايتهم بلغة محتليهم أي اللغة التركية هاهنا، وكتاب أخير يتضمن حِكم الإمام الشافعي قام بترجمته برهان الهدبي.

هناك شيء يصيب الكثير من الكتّاب أو القراء ألا وهو حالة النسيان، أي نسيان الكُتب المشتراة سابقًا أو المقروءات من قبل

وبما أن ثمة كتبًا لها سحر خاص وجاذبية لا تقاوم كما كان حالنا مع نهج البلاغة وملحمة مم وزين، فبعد جلبي للكتب التي أشرتُ إليها توًا للمنزل، حِرت بدايةً مِن أيَّ كتابٍ من بين الكتب أبدأ، كما يحتار الشخص النَّهم عندما توضع أمامه عشرات الأطباق الشهية من المأكولات المختلفة الأشكال والألوان والمذاقات، أو كحال مؤمنٍ دخر فحولته الدنيوية للآخرة ولكنه عندما تلقى مخصصاته من الحِسان في الفردوس ذُهل من مرأى الحوريات الجميلات بالجملة، ولم يعد يعرف أيّ واحدة منهن يُقارب، وهذا كان حالي مع تلك الكتب، إذ بما أنه عقب توفر الكتاب الرقمي لم نعد نشتري إلّا الكتب غير المتوفرة إلكترونيًا من جهة، أو تلك التي لها قيمة ما أو نشعر بأننا بأمس الحاجة إلى قراءتها مطبوعةً من جهة أخرى، وبما أن تلك المجموعة برمتها مشوقة بالنسبة لي، ولكن مع الحيرة في الانتقاء بينهم فكان عليّ أن أختار كتاب واحد من بين مجموعة الكتب لأضعه في الحقيبة اليدوية الصغيرة، وحيث وجدت بأن التفضيل أمر عسير، وبالرغم من أنه سبق أن قرأت ديوان الإمام الشافعي أكثر من ست مرات، طالما أنه كان يرافقني في بيروت وفي سوريا، وحتى عند مجيئي إلى تركيا والذي بدلًا من ديوان واحد انتبهت بعد وصولي إلى إسطنبول بأني قد جلبت معي نسختين من ديوان الإمام الشافعي، واحدة من مطبوعات مكتبة أقيول بحلب، والأخرى من منشورات دار الأرقم البيروتية، ولكني مع ذلك فمن بين مجموع تلك الكتب المشتراة فلم أجد نفسي إلاّ وقد وضعتُ الكتب الأربعة الأخرى على دور الانتظار فوق الطاولة، ودسست كتاب الإمام الشافعي المترجم للكردية في الحقيبة كي أبدأ به أولًا، مَن يدري لعله ثمة شوق خفي لتقبيل كلمات الإمام الشافعي وتذوق حكمته ونهل فلسفته من جديد، ولكن هذه المرة عِبر اللسان الكردي.

اقرأ/ي أيضًا: 11 علامة تدلّ على أنك من عشاق الكتب

ولا ننسى في هذا الإطار القول بأن هناك شيئًا آخر يصيب الكثير من الكتاب أو القراء ألا وهو حالة النسيان، أي نسيان الكُتب المشتراة سابقًا أو المقروءات من قبل، وهذا ما يدفعهم لشراء كتب سبق أن اشتروها أو نهلوا محتوياتها، ولكن الذاكرة خذلتهم لذا تورطوا في عملية شراء نفس المنتجات مرات أخرى، ومنهم من يشترون نفس العناوين لأن الكتب المكدسة لديهم تمنعهم من الوصول إلى الكتاب المطلوب، فيشترون كُتبًا أخرى نيابةً عن الموجودة لديهم ولكنها ليست في متناولهم بسبب زحمة الكتب، ومنهم على سبيل الذكر القاص المغربي أحمد بوزفور، إذ يشير الكاتب محمد آيت حنا في كتابه "مكتباتهم" إلى أن بوزفور يقتني الكتاب نفسه مرات ومرات لأنه ينسى العناوين السابقة أو تكون الكتب المشتراة صارت بين مجموع الكتب التي غطتها كتب أخرى، ولم يعد بمقدوره بذل الجهد للبحث عنها، لذا يشتري نسخة ثانية أو ثالثة عوضًا عن البحث الطويل في البيت عن الكتاب الموجود من قبل بما أن مكان إقامته غدا غير معلوم في المكتبة.

وبالرغم من أن الكتب التي تمثل عيون الأدب العالمي قد تُرجمت إلى الكثير من اللغات في العالم، وبالتالي بإمكان المرء قراءة تلك الأعمال من خلال الترجمة، إلاَّ أن ثمة مَن يود الوصول الى الأصل وقراءة تلك الكتب الهامة مباشرةً من خلال اللغة التي كُتِبَت بها وعدم الاكتفاء بالترجمة، إذ هناك من حاول أو يحاول تعلّم لغة شعبٍ آخر بسبب الرغبة في قراءة منتجات تلك اللغة، كأن يتعلم واحدنا اليابانية ليتلقف المناهل الأولى لقصيدة الهايكو في العالم، أو يتعلم الإنجليزية كرمى قراءة أدب وليم شكسبير، أو الإيطالية ليقرأ الكوميديا الالهية، وفي هذا الصدد يشير الكاتب المغربي عبدالفتاح كيليطو في كتابه "بحبر خفي" إلى أن الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس حاول تعلم العربية من أجل قراءة ألف ليلة وليلة باللغة العربية، وهو في السابع والثمانين من عمره إلّا أن حُلمه لم يتحقق لكونه فارق الحياة قبل تعلمها.

ثمة كتب نتوق لقراءتها ليس لأننا سمعنا عنها شيئًا مهمًا، وليس لأننا نعرف شيئًا مميزًا عن كتابها، إنما لمصادفتنا لجملة واحدة منها

اقرأ/ي أيضًا: الكتب التي يعشقها الدكتاتور

كما أن ثمة كتبًا نتوق لقراءتها ليس لأننا سمعنا عنها شيئًا مهمًا من المحيطين بنا، وليس لأننا نعرف شيئًا مميزًا عن كتابها، مَن هم؟ مِن أين هم؟ وما هي هوياتهم الإثنية أو الدينية؟ إنما مصادفتنا لجملة واحدة من عمل أحدهم قد تكون كافية لأن نبحث عن الكتاب ككل حتى نتمكن من قراءته كاملًا، ومنها على سبيل الذكر وليس الحصر فلم أقرأ تأملات الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، ولا كتاب الفيلسوف الرواقي الروماني إبيكتيتوس إلاَّ بعد أن صادفت مقتطفات من مكتوباتهم في مؤلفات الكاتب الأمريكي ريان هوليداي، ومع أني قليلًا ما أقرأ الروايات إلاَّ أن فقرة واحدة من رواية الكاتب الأفريقي ـ الفرنسي آلان مابانكو صادفتها في الآونة الأخيرة في مكانٍ ما فهي تدفعني حاليًا دفعًا صوب روايته "فلفل الصغير"، مع إني إلى لحظة كتابة هذه المقالة لم أحظ بالنسخة الورقية أو الإلكترونية من تلك الرواية، وبودي أن أحصل عليها قبل أن تفتر الهِمة وتتلاشى دوافع الشوق والجاذبية مع مرور الزمن كما حصل مع كتبٌ أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

صفحات لا مرئية

في أشياء القراءة والكتب