01-أغسطس-2015

تصميم لـ(مصطفى عذاب/ سوريا)

نمد ألسنتنا بوجه التاريخ الذي يقوم بالمثل، ما تشهده سوريا، وغيرها من الدول العربية، يحوي في جوهره عبثاً "Absurdity"، يجعل البعض يقف مشلولاً أمام هول ما يحدث، إلا أن الانفتاح على ما بعد الحداثة ومقوماتها، من وسائل النشر المختلفة، جعل السخرية والتهكم ينتشران بكثرة، بوصفهما يريان في نفسهما القُدرة على الوقوف بوجه الكم الهائل من المعلومات والصور والحقائق المتدفقة في سبيل انتقادها ومحاكمتها من جهة، ونزع الشرعية عنها من جهة أخرى، عبر الاعتماد على مرجعيات مختلفة، سواء من الواقع أم الحدث الإعلامي أو حتى الصورة بأنواعها.

تكمن علاقة المحاكاة الساخرة بالحدث التاريخي في أنها تنبع من الرغبة في محاكمته

المحاكاة الساخرة أو التمثيل الساخر "Ironic Parody"، هي إعادة إنتاج لما هو "حدث"، أو "غرض"، أو "عمل فني"، بصيغة أخرى عبر السخرية منه، أو السخرية من الوسيط الذي يحمله، فالأحداث التاريخية مثلاً التي تمر بها المنطقة تدوّن على مستويين، "Doxa" أو الرسمي الذي يكتبه الأقوى، والمستوى المقابل له من قبل الأضعف الذي يمثل المضاد، لكن هناك ما يمثل جانباً آخر "DE-Doxa"، وهو جانب المحاكمة لهذا التاريخ نفسه وتقنية تدوينه، انتقاد المعنى الذي يحويه أو الرسالة التي توصله.

هذا ما نلاحظه في وسائل التواصل الاجتماعي حيث تفبرك بيانات ساخرة، أو نصوص رسمية ساخرة تحمل ذات الشكل الذي تقدمه جهة ما، قد يبدو الموضوع سطحياً، إلا أن السخرية من هذا النوع هي تشكيك بأصالة الوثيقة وشرعية الجهة التي تصدرها، بالتالي المرجعية التي تعتمدها المحاكاة الساخرة مفتوحة دون قيد، وقد تكون عملاً فنياً، أو وثيقة تاريخية، أو بياناً رسمياً، أو برنامجاً تلفزيونياً، أو حتى هوية شخصية كحالة الهوية السوريّة المزورة التي حصل المراسل الصحفي مايكل جيجيلو، هنا السخرية نابعة من داخل النظام أو البنية، التي يتم انتقادها حيث يتم توظيف أدوات النظام نفسه للوصول إلى النتيجة الساخرة التي تشكك بالبنية التي تقدم هذا النوع من الوثائق.

مصطفى عذاب
مصطفى عذاب

لا يمكن إنكار الدور النقدي للسخرية، صحيح أن البعض يخلطها مع ما هو سطحي ومبتذل، أو حتى خال من المعنى "pastiche"، قد يكون ذلك نتيجة خطأ بناء هذه المحاكاة لا في المحاكاة نفسها كتقنية، إذ هي موجودة كأسلوب نقدي في تاريخ الفن بصورة دائمة والمثال الأشهر هو مسرحية أوبو ملكاً "1896" للفرنسي ألفريد غاري التي تنتقد تقنية المسرح التراجيدي وخصوصاً "ثلاثيّة طيبة" المرتبطة بشخصية أوديب الملك. أما اليوم فهي تظهر بوضوح في الأفلام الإباحية، والاختلاف أن هذه الأفلام تحاكي الحدث والمرجعية الواقعية، بحيث تعيد إنتاج الحياة اليومية للانتهاء إلى اللذة المتمثلة بالإيلاج ثم الإنزال، أما العمل الفني الساخر فهو يحاكي إما الحدث الواقعي أو التاريخي أو حتى الفني أيضاً، من أجل التشكيك فيه عبر السخرية من تقنياته.

علاقة هذه المحاكاة بالحدث التاريخي تنبع من الرغبة بإعادة إنتاج هذا الحدث لمحاكمته، عبر الوسيط الفني، أو عبر التقنية التاريخية نفسها "الوثيقة"، من خلال تحويلها مادة للتهكم، والمثال الراهن على ذلك الذي لم ينتشر بكثرة هو الصور التي قدمها المصور الفوتوغرافي مصطفى عذاب، حيث عمد إلى تحوير صور سجن تدمر القليلة التي نشرها تنظيم دولة الإسلام على الإنترنت، وقام بإضافة مقتنيات الثقافة الرأسمالية المشتركة بين الجميع، والمنتشرة في الحياة اليومية.

 تشكك المقاربة الساخرة في كتابة التاريخ

الصور التي نشرها عذاب تشكّك بشرعية الحدث التاريخي والوثيقة التي وصلتنا عنه، بما أن سجن تدمر لا يوجد مرجعية بصرية عنه إلا الصور التي نشرها تنظيم دولة الإسلام، واستخدام عذاب أدوات التكنولوجيا الاستهلاكية المستمدة من المركز الغربي، إلى جانب المركز الهامشي "القمع"، المتمثل بسجن تدمر، يجعل الصور تسخر من الحدود بين الهامش والمركز، بل تتلاشى بسبب شعرية السخرية نفسها، إذ تطرح الصورة تساؤلات عن طبيعة هذه الصور، ومدى صحة مرجعيتها من جهة، وعن طبيعة التاريخ والمضمون الذي تحكيه من جهة أخرى، فصورة الكمبيوتر داخل السجن هي إعادة إنتاج لنسقين متناقضين، ضمن سياق واحد، ليبدو الغروتيسك طاغياً دون تكلف، بالتالي المقاربة الساخرة هنا تفكك ما هو أسطوري، أو ما تحول إلى أسطورة كحالة هذا السجن، وتخضعه للمحاكمة من أجل إعادة النظر فيه، لا لتحويله إلى بكائية أو وسيلة للانتقام، في سبيل تحديد ما سيحدث بعد انهدام هذا السجن.

الانتهاك الذي تمارسه المقاربة الساخرة للواقع أو الحدث التاريخي، عبر العمل الفني، تجعل معضلة الأصالة والانتماء أيضاً تنهار عبر التورط الشخصي في العمل الفني/ النقدي، إثر مقاربة التقنيات التي أنتجت الحدث والمعنى الذي يحمله، وهذا ما فعله الفنان المسرحي السوري أيهم آغا للتذكير بآثار مدينة دير الزور التي تنهب، إذ قام بتصميم بضعة قطع من المعجون، وعرضها على صفحته الشخصية بوصفها آثاراً للبيع .

أيهم آغا
أيهم آغا

في ما فعله آغا نلاحظ أنه يستعيد الغرض التاريخي هنا، لا بهدف النوستالجيا فحسب بل محاولة لتوجيه الانتقاد للصمت على بيع الآثار التي تتعرض للمحو من قبل القوى الظلامية، مستخدماً الوسيط الذي كان عبره يتم البيع "الفيسبوك" للتهكم والسخرية على البيع نفسه. هذه الاستعادة هي إعادة إحياء لجماليات هذا الغرض المرتبطة بالماضي، وكأن استخدام التقنية ذاتها في إنتاجه، يؤكد على أهمية المعنى الذي يمتلكه كون ما يباع  حقيقة هو آثار تاريخية وليست قطع مختلفة من المعجون.

المقاربة الساخرة تشكك في كتابة التاريخ، لأنها تستعيض عن مفاهيم القواعد والخطاب بمفاهيم اللعب التي ينبثق منها ضد التأليف، لإلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية والسردية. اللعب هنا على أساس استخدام قواعد من سياق ما لتطبيقها ضمن سياق مختلف، والمثال الأوضح هو مجلة دابق البديلة، إذ نجد مقاربة ساخرة لـ مجلة دابق الصادرة عن تنظيم الدولة، تحاكم الخطاب الذي تقدمه دابق الأصلية، لنرى منتجاً يستند إلى مرجعية نصية "مجلة"، ويوجه النقد لها من جهة وللواقع من جهة أخرى، وهذا بالضبط ما تسعى "دابق البديلة" للقيام به، إذ هي تشكك بمرجعية الواقع الذي يمثله الوسيط "دابق" الأصليّة، كذلك تنتقد الواقع الموضوعي بمرجعيته الواقعية أو الرقميّة عبر المضمون الذي تقدمه.

المحاكاة الساخرة تشكك بتقنية المحاكاة نفسها. الاختلاف أن المحاكاة الساخرة لا تعكس الواقع، بل تعكس الفكر، بالتالي النقد المرتبط بالمحاكاة هو مرتبط برؤية الشخص الذي يقدمها، والتي تختلف تبعاً لهذا الشخص، وتلقّي العمل الساخر مرتبط بثقافة صانعه من جهة، والمتلقي من جهة، ودون معرفة المرجعية أو النموذج الذي تحاول المقاربة الساخرة أن تحاكمه وتنتقده تفقد معناها، فهي لا تحمل في داخلها مفهوماً تطهيرياً، بل هي أقرب إلى النشاط الفكري الواعي للتفكيك، ومحاكمة المرجعية والتقنية، بحيث يكون يكون العاطفي فيها ضعيف أمام العقلاني والنقدي في الوقت ذاته.