23-أغسطس-2015

داغرمان مع زوجته آن ماري غوتزه

كان ستيغ داغرمان كاتبًا وصحافيًا سويديًا، وأثبت رغم رحيله الباكر أنه أحد أبرز الكتاب السويديين في حقبة الأربعينيات. ولد ستيغ داغرمان في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1923 في "آفكارليبي" وأجبر على العيش مع جدّيه في مزرعة في إحدى بقاع الريف السويدي، ذلك لأن والده العامل لم يكن قادرًا على إعالته، ولأنّ أمه غادرته عقب ولادته، ليلتقي ستيغ داغرمان بها لاحقًا في سن العشرين. 

تجربة ستيغ داغرمان مع زوجته الألمانية جعلته يعزز شعوره بنبض أوروبا السياسي والأخلاقي

انتقل ستيغ داغرمان إلى ستوكهولم عام 1932 لينهي تحصيله المدرسي، وسكن في منزل والده، حيث تعرّف إلى حركات مناهضة للرأسمالية. التحق بالعمل النقابي وصار ستيغ داغرمان محرّراً منذ التاسعة عشر في عدة صحف، جميعها كانت مناهضة للرأسمالية. 

تزوج ستيغ داغرمان عام 1943 وليس هناك الكثير من المعلومات حول قرانه بالألمانية آن ماري غوتزه، سوى أنها وعائلتها كانوا قد لجؤوا إلى السويد "المحايدة" هربًا من النازية، وأن تجربته مع أهلها جعلته يعزز شعوره بنبض أوروبا السياسي والأخلاقي.

لمع نجم  ستيغ داغرمان ليصنف سريعًا في خانة عظماء الأدب السويدي. بدأ باكورته الروائية باكرًا، فنشر عن 22 سنة فقط أوّل رواية له  تحت عنوان "أورمن" أو "الأفعى"، وكانت رواية ضدّ العسكر والحرب. ربما يختصر نجاح السويدي ستيغ داغرمان في عمله الروائي الأوّل بنجاحه بإدخال روح العصر الهالك آنذاك إلى الرواية. كما أننا نجد في أعماله، على اختلافها، مساحات كبيرة عالجت إشكاليات فلسفية كبيرة منها الأخلاق، الحرية، النظم القائمة، العدالة، الأحلام، الوعي الجماعي، الجنس والموت. 

كتب ستيغ داغرمان نصوصًا بنفس طويل، وإيقاع بطيء، بحيث يمكنها أن تتماهى مع كلّ العصور والأحداث. الرجل الذي شُبّه بكافكا تارةً ليأسه المفرط، وبكامو طورًا لفلسفته التنويريّة، قال عنه الكاتب البريطاني غراهام غرين "لقد كتب  ستيغ داغرمان بموضوعية جميلة، وبدلًا من استخدام العبارات العاطفية استخدم الوقائع والحقائق. هكذا، نجح الرجل بإنشاء نص صلب، نص يشبه جدار الطوب، لبناء العاطفة الإنسانية".

بعد توقفه المفاجئ عن الكتابة في 1949، كتب ستيغ داغرمان نصوصًا قليلة، من بينها مقالة حملت عنوان "حاجتنا للعزاء". نشرت المقالة في مجلة سويدية في عام 1952، أي قبل بسنتين فقط قبل انتحار كاتبها في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 1954. نُسي نص المقالة في الأرشيفات وبقي موجودًا بلغته الأصلية، ثم عاد إلى الواجهة الثقافية في 1984 بعد ترجمته إلى اللغة الفرنسية. هنا، أحد أشدّ نصوص داغرمان حبًّا وكآبة.


حاجتنا إلى العزاء

أنا مجرد من الإيمان، إذًا لا يمكنني أن أكون سعيدًا. فأي رجل يخشى أن تكون حياته مجرد تسكع نحو الموت العبثي والحتمي، لا يمكن أن يكون سعيدًا. لقد نشأت من دون إله، ولم أرث مكانة على هذه الأرض لأثير انتباه إله ما. لم أتقن، كالارتيابي، تمويه سخطي. لم أتربَّ على مكر العقلانيين، ولم أتعلم فن تفويح الطهارة من إلحادي. لا أجرؤ، إذًا، على رمي الحجر لا على تلك التي لا تؤمن بأشياء، لا تلهمني سوى الشكَّ، ولا على ذلك الذي يرعى شكه كما لو أن الظلمات لا تحيط به. هذا الحجر، الذي لم أرمه، سوف يصيبني، لأني واثق من شيء واحد، الحاجة للعزاء، كما يعرفها الإنسان، غير قابلة للإشباع.

أطارد العزاء كما يتعقب الصياد الطريدة

فيما يخصني، أطارد العزاء كما يتعقب الصياد الطريدة. أطلق النار عبثًا حيثما تهيأ لي أني لمحته في الغابة. بين الحين والآخر تـسقط فريسةعند قدميْ. وبما أني أعرف أن العزاء لا يدومأكثر من غلغلة نسمة في رأس شجرة، أستعجل بالإستيلاء على ضحيتي.

ماذا هناك بين أحضاني إذًا؟
بما أني وحيد: امرأة محبوبة أو صديق سفر بائس.
بما أني شاعر: قوس أذخره بالكلمات عند احساسي بالفرح والهلع.
بما أني سجين: لمحة مفاجئة من الحرية.
بما أني مهدد من الموت: حيوان حيّ ودافئ، قلب ينبض بطريقة ساخرة.
بما أني مهدد من البحر: رصيف بحري صلب من الغرانيت.

لكن من بين هذه التعازي ما تصلني دون دعوة، وتملأ غرفتي بهمسات مقيتة: أنا لذتك، أحب كلاللذات. أنا موهبتك، أسئ استعمالي كما تسيء استعمال نفسك. أنا رغبتك في المتعة، وحدهم الذواقة يعيشون. أنا عزلتك، احتقر الرجال. أنا اجتذابك إلى الموت، فاجزم.

حد الشفرة قاطع. أرى حياتي مهددة بخطرين. أفواه الجشع الشرهة، ومرارة البخل التي تتغذى من نفسها. لكني أتمسك برفض الاختيار ما بين العربدة والزهد، ولو في هذا الخيار سأبوء عقاب حرق رغباتي. بالنسبة لي، وبما أننا لسنا أحراراً في أفعالنا، لا يكفي أن نعرف أن لكل شيء عذره. ما أبحث عنه في حياتي ليس العذر، إنما عكس العذر تماماً. أبحث عن السماح. أستخلص أن كل عزاء، لا يأخذ حريتي بعين الاعتبار، يكون ضلَلًا، وهو ليس سوى صورة إحباطي المعكوسة.

في الحقيقة، حين يقول لي يأسي: افقد الأمل، إن كل يوم ليس سوى هدنة بين ليلين، يقول لي عزائي الزائف: آمل، فإن كل ليل ليس سوى هدنة بين نهارين.

لكن ما للإنسانية ولعزاء الكلمة الفضفاضة؟ الإنسانية بحاجة لعزاء ينير. إن الذي يتمنى أن يصبح فاسداً، أي رجلٍ يدافع عن كل أفعلاله، يجب عليه، أقلّه، أن يعي أنه صار فاسداً.

لا يمكن لأحد أن يحصي كل الحالات حيث العزاء ضرورة. لا أحد يعلم متى يسقط الغسق. الحياة ليست طرحًا حسابيًا يمكن حله عبر قسم الضوء على الظلمة والنهار على الليل. الحياة سفر بين أماكن غير موجودة، سفر لا يمكن التنبؤ به. يمكنني مثلًا أن أمشي على الشاطئ، وأن أشعر، فجأة، بالتحدي الرهيب الذي رماه الخلود وأصاب به وجودي.

يمكنني أن أشعر به في حركة البحر الدائمة، وفي تسرب الرياح الدائم. ماذا يصير الوقت إذن لو لم يكن عزاء لتلاشي كل ما هو إنساني، ويا لبؤس هذا العزاء الذي لا يعني سوى السويسريين!

يمكنني أن أبقى جالسًا أمام المدفأة، في أقل الغرف عرضة للخطر، وأن أشعر، فجأة، بالموت يطوّقني. إنه في المدفأة، في كل الأشياء المسننة حولي، في ثقل السقف، في كتل الجدران، في الدفء، وفي دمي. ماذا يصير شعور الإنسان بالأمان إذًا لو لم يكن عزاء للحقيقة القائلة إن الموت هو أقرب الأشياء إلى الحياة، ويا له من عزاء بائس، لا يذكرنا سوى بما أراد أن ينسينا إياه!

يمكنني أن أملأ كل صفحاتي البيضاء بأفضل الصيغ التي يمكن لعقلي تخيلها. بما أني أبحث لأتأكد أن حياتي ليست عبثية، وبأني لست وحيداً على الأرض، أقوم بجمع كل هذه الكلمات في كتاب، وأهديه للعالم. في المقابل، يعطيني هذا الأخير الغنى، المجد والصمت. لكن ماذا يمكنني أن أفعل بهذا المال، وأية لذة يمكن أن أنالها، لأساهم عبرها بتقدم الأدب. لا أشتهي إلا ما لن أدركه. إلاَّ التأكيد على أن كلماتي مست قلب العالم. ماذا تصير موهبتي إذن لو لم تكن عزاء لوحدتي، لكن أي عزاء مرعب هذا الذي، ببساطة، يضاعف وحدتي خمسة مرات.

يمكنني أن أرى الحرية تـقمصت ببهيمة تعبر سريعًا في فرجة الغابة، ويمكنني أن أسمع صوتًا يهمس: عش بكل بساطة، خذ ما ترغب ولا تخف من القوانين! لكن ماذا تكون هذه النصيحة الحسنة لو لم تكن عزاء للحقيقة القائلة إنه لا وجود للحرية، وكم هي مذرية لهؤلاء الذين يتنبهون إلى أن المخلوق الإنساني يحتاج لملايين السنين ليصبح عظاية*!

في النهاية، يمكنني أن أتخيل أن هذه الأرض مقبرة  جماعية يرقد فيها الملك سليمان بجانب أوفيليا وهملر. يمكنني أن أستنتج أن السفاح والبائسة يتلذذان بنفس الموت الذي يتلذذ به الحكيم. يمكنني أن أستنتج أيضًا أن بمقدور الموت أن يقدم لنا نصف عزاء لحياة مهدورة. لكن كم يكون هذا العزاء شنيعًا لذلك الذي يريد أن يرى في الحياة عزاء للموت!

لا أمتلك فلسفة يمكنني أن أندفع من خلالها كاندفاع السمكة في الماء

لا أمتلك فلسفة يمكنني أن أندفع من خلالها كاندفاع السمكة في الماء أو العصفور في السماء. الفصاحة هي الشيء الوحيد الذي أملكه، وهي تصلني في كل دقيقة من حياتي تقع بين عزاءين زائفين، لا يقومان إلا بزيادة عجزي وتعميق إحباطي. الفصاحة تسلّم لي أيضاً في كل دقيقة تقع بين عزاءين حقيقيين يحملاني إلى حرية مؤقتة. ربما يحب علي أن أتكلم بالمفرد وأن أقول عزاء حقيقيًا بدلًا من عزاءين حقيقيين، فبالنسبة لي ليس هناك سوى عزاء حقيقي واحد، ذلك الذي يقول لي أني رجل حر، فرد محرم، مخلوق سيد على نفسه.

لكن الحرية تبدأ من العبودية والسيادة من التبعية. العلامة الأكثر تأكيداً لعبوديتي هي خوفي من الحياة. العلامة الحاسمة لحريتي هي تركُ خوفي حيزًا لفرحة الاستقلال المطمئنة. يقال إني أحتاج لأعيش التبعية حتى يتسنى لي في نهاية المطاف أن أعرف عزاء كوني رجلًا حرًا، وهذا بالتأكيد صحيح. يتراءى لي على ضوء أفعالي أنه لم يكن لحياتي أي أهداف عدا صنع تعاستي الخاصة. والذي كان حري به أن يأتيني بالحرية، أراه يأتيني بالرق، يأتيني بالحصى عوضًا عن الخبز.

الرجال الآخرون لهم أسياد آخرون. فيما يخصني، يمكنني القول أن موهبتي تجعل مني عبداً. أخاف أن أفقدها لدرجة لا أجرؤ على استعمالها. أنا عبد اسمي لأبعد الحدود. أخاف أن أسبب له الملل، فبالكاد أجرؤ على كتابة سطر واحد. وعندما تصل الكآبة أكون عبدها أيضًا. إن أكبر رغباتي تتلخص بحفظها، وأكبر لذاتي هي الشعور  بقيمتي التي تكمن في ما ظننت أني فقدته، القدرة على خلق الجمال انطلاقًا من يأسي، من قرفي ومن ضعفي. بفرح ممزوج بالمرارة أرغب أن أرى منازلي حطامًا وأن أرى نفسي مكفنًا تحت ثلج النسيان. لكن الكآبة كالماتريوشكا، وفي أصغر ماتريوشكا ثمة سكين، شفرة وسمّ. ثمة مياه عميقة وسقطة في فجوة كبيرة. أصير في النهاية عبداً لكل أدوات الموت هذه. تتبعني ككلاب. يتراءى لي أني فهمت أن الانتحار هو البرهان الوحيد على وجود حرية الإنسان.

لكن وبما أني آت من خلفية لا زلت لم أشكك فيها بعد، فالأعجوبة تقترب من التحرير. الاقتراب يمكن أن يحصل على الشاطئ، ونفسه الخلود الذي أثار رعبي منذ لحظات، يشهد الآن صعودي نحو الحرية. فأين تكمن هذه الأعجوبة إذن؟ تكمن ببساطة في الإكتشاف المفاجئ ومفاده أنه لا شخص، لا  قدرة  ولا إنسان لديه الحق بأن يعلن لي عن مقتضيات تشير إلى أن رغبتي في الحياة بدأت تذوي. فإذا كانت الرغبة نفسها غير موجودة، فما الذي يمكن أن يكون موجودًا؟

يمكنني أن أتعلم من البحر بما أني على شاطئه. ليس لأحدهم الحق أن يلزم البحر بجلب كل السفن، والرياح بدفع الشراعات على الدوام. ينطبق الأمر علي أيضًا، فليس لأحدهم الحق أن يلزمني بحياة تكون أسيرة وظائف معينة. ليس "الواجب قبل كل شيء"* إنما الحياة. تماماً مثل الرجال الآخرين، يحقلي أن أغرد خارج السرب في بعض الأحيان وأن أشعر بأن حياتي لا تختصر بكونها جزيئة في جرم الكوكب، بل أنها أيضاً وحدة تلقائية مستقلة.

أين تقع الغابة لأثبت أن العيش بحرية خارج مساحة المجتمع الفجة لا زال ممكننًا؟

فقط في لحظة مثل هذه يمكنني أن أكون حرًا إزاء وقائع الحياة التي سببت لي اليأس مسبقًا. يمكنني أن أعترف بأن البحر والرياح سيعمران من بعدي، وأن الخلود لا يأبه لأمري كثيرا. ومن يطلب مني أن أقلق على الخلود أصلًا؟ حياتي ليست قصيرة إلا إذاوضعتها على سجل الوقت. فرصها ليست محدودة إلاّ إذا عددت الكلمات والكتب التي سوف أعطيها من وقتي في اليوم الأخير قبل مماتي. لكن من يطلب مني أن أعد؟ الوقت ليس معياراً يناسب الحياة. في جوهره، الوقت أداة قياس من دون قيمة لأنه لن يقيس سوى الأعمال المهمة من عمري.

كل الأمور المهمة التي تحصل لي وكل ما يهدي حياتي جوهرها الساحر، من لقاء مع محبوب، ملامسة جسد، معونة في لحظة حرجة، على مرأى من القمر، نزهة شراعية في البحر أو غبطة نعطيها لطفل، وقشعريرة أمام الجمال... كل هذا يدور خارج نطاق الوقت. لا يهم إن التقيت بالجمال لمدّة ثانية أو لمائة عام. الغبطة ليست فقط أمرًا هامشيًا بالنسبة للوقت، لا بل إنها تنكر كل شكل من أشكال العلاقة بينه وبين الحياة.

إذًا، أنزع عن ظهري عبئيْن دفعة واحدة. عبء الوقت وعبء المتطلبات.حياتي ليست شيئاً يجب علي أخذ مقاييسه. فلا القفز من شدّة المرح ولا طلوع الشمس هما نتيجتان قد طُلبتا. حياة الإنسان ليست تأدية، إنما شيء يكبر ويبحث عن الكمالية. وما هو كامل لا يحقق أي نتيجة. ما هو كامل يعوم في الجماد. إنه لأمر عبثي أن نتظاهر بأن البحر خلق ليأتينا بالأساطيل والدلافين فقط. 

بالطبع هو كذلك، لكن كونه موردًا للأساطيل والدلافين فهذا لا يعني بالضرورة أنه سوف يفقد ذرة من حريته. الأمر نفسه ينطبق على الإنسان. إنه لأمر عبثي أن نتظاهر بأن الإنسان خلق بهدف أشياء أخرى سوى الحياة. بالتأكيد، يفبرك الإنسان الآلات، يكتب الكتب، لكن بإمكانه أن يتقن أموراً أخرى أيضاً. المهمّ هو أن يقوم الإنسان بكل ما يقوم به بحرية مطلقة وبوعي كامل بأنه في يوم من الأيام، سينتهي في نفسه. تمامًا مثل أي كينونة أخرى من الخلق. بعد الموت، سيرقد الإنسان داخل نفسه كما يرقد حجر على الرمال.

يمكنني أن أتخلص من سلطة الموت. صحيح أنه لا يمكنني أن أتخلص من فكرة الموت الذي يتعقبني، وصحيح أنه لا يمكنني أن أنكر وجوده أكثر مما سبق وأنكرت حتى الآن. لكن يمكنني أن أقلص، إلى درجة الصفر، التهديد الذي يشكله الموت علي، عبر إعفاء شخصي من قران حياتي بمرتكزات متزعزعة كالوقت والعظمة.

في المقابل، ليس دائمًا بمقدوري أن أراقب البحر وأن أقارن حريته بحريتي. ستأتي اللحظة حيث أستدير إلى جهة الأرض وأتواجه مع منظمي الغم الذي وقعت ضحيته. في حينها سأكون مرغمًا على الاعتراف بأن الإنسان أعطى لحياته، ظاهريًا على الأقل، أشكالًا أقوى منه. حتى بحريتي الجديدة، لا يمكنني كسر هذه الأشكال. لا يمكنني سوى أن أتنفس تحت ثقلها.

بالمقابل، يمكنني أن أفرق بين العبثي والحتمي من المتطلبات التي تشكل حملاً على الإنسان. بالنسبة لي ثمة نوع من الحرية يفقد للأبد أو لزمان طويل. إنها الحرية الصرفة التي تنتج عن قدرة امتلاك عنصرها الخاص. السمكة مثل العصفور والحيوان البرّي، لكل منها عنصرها الخاص والشخصي. أمتلك "ثورو" غابة "والدن"، لكن في أيامنا هذه، أين تقع الغابة حيث يمكن لإنسان ما أن يثبت أن العيش بحرية خارج مساحة المجتمع الفجة لا زال ممكننًا؟

أجد نفسي مجبرًا على الرد في "اللامكان". اليوم، إذا أردت أن أعيش حرًّا، علي أن أعيش حرًّا داخل أشكال المجتمع. العالم بذلك أقوى مني. لا أملك شيئًا لأقاوم سلطته سوى نفسي. لكن على الجهة الأخرى، الموضوع لا زال قابل للنقاش. سأبقى أمثل قوة لطالما أني لا زلت غير مسحوق تحت أهوال العدد. ستبقى سلطتي هائلة طالما أن كلماتي تـقاوم طغيان العالم، فلا مقارنة معقولة بين تعبير من يشيد سجونًا وتعبير الذي يبني الحرية. سوف لن تعرف قوتي حدودًا في اليوم الذي سأفقد فيه الصمت لأدافع عن حصانتي، ذلك لأنه لا سلطة لأي مقصلة على الصمت الحي.

هكذا هو عزائي الوحيد. أعرف أن معاودة السقوط في بحر اليأس سوف تكون كثيرة وعميقة، لكن تذكار أعجوبة التحرير يرتقي بي، كجناح، إلى هدف يسبب لي دوارًا في الرأس، عزاء يكون أكثر من مجرّد عزاء وأوسع من فلسفة، أي بكلمات أخرى، سببًا لأحيا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بيورنستيرن بيورنسون: الأب

هاروكي موراكامي.. كهف الريح