31-أغسطس-2016

من مشروع (aptART)

النشيد الثالث:

رحلوا لتفتتحَ الجرائدُ يومها
بإزالةِ العنوانِ من خبرٍ عروبيٍّ قديمٍ
ثمّ تبدلهُ بعنوانٍ جديدٍ عنهمُ
من دونِ تغييرٍ يصيبُ المتنَ 
فالأرشيفُ في محنِ العروبةِ واحدٌ
من هجرةِ المكيّ
حتّى هجرةِ الغيبيّ
في غــدِنا المعلّقِ مثلَ مرآةٍ على رُقــُمِ الجدودِ الأبجديّةْ.
هيَ لوحةُ الأحزانِ 
تشبهُ لوحةَ الإعلانِ
في أيّامنا
بروازُ حزنٍ ثابتٌ
ونبدّلُ الإعلانَ
من شعبٍ إلى شعبٍ
ويأتي السائحونَ 
فلا يرونَ 
سوى تغيّرِ لونِ صورتنا
بحكمِ تطوّرٍ في تكنولوجيا
عرضِ مِيتَتِنا
وشكلِ الشعرِ في كتبِ المراثي
من قفا نبكِ الخيامَ
إلى قفا نبكِ الرّخامَ
ونحنُ شعبٌ واحدٌ
في حزِننا
جِـرْسُ الحمامِ
موافقٌ ظلّ السلامِ
وهكذا قالتْ أوائلُ فُصّلتْ
يا ليتها قد فــُـصِّلتْ 
فــيَّ البلاغة باللسانِ الأعجميّ
لكي أغيبَ عن المدى الصوتيّ
في فــَـهـْـمِ الأنيـنِ الداخليّ
بخطوةِ العربيّ
في دربِ المتاهةِ والظلامِ/
لو لمْ أرَ الأيدي على كتفيَّ
تسقطني من الحصنِ المنيعِ
لـَـمَا بكيتُ على انهزامي/
لو كانتِ الأزهارُ ترسمُ لوحةَ الفجرِ الشهيّ
لما هربْتُ إلى منامي/
لم تبقَ لي ثقةٌ بسيرِ الروحِ
في هذا الضبابِ لكي أرى حلمي أمامي/
لم يبقَ بي عَصَبٌ ينبّهني 
إذا ما غربتي نخرتْ عظامي/
لمْ تمطرِ الآمالُ فوقَ حشائشٍ يبستْ بحقلِ القلبِ
كي تتفرّعَ الأحلامُ خـُـضْرًا في كلامي/
*

رحلوا وقدْ تركوا الدموعَ على ترابِ صلاتهم
ومشوا يصلّي الخوفُ فيهمْ 
ركعتينِ ويسجدُ
لا قبلةٌ قـَـبـِلتْ توجّههمْ
ولا
قوسٌ
على قببِ المساجدِ
يُرشِدُ
ضاعوا وما ضاعَ الحنينُ لأرضهمْ
فحنينهمْ كـالآيِ لا يتبدّدُ
رحلوا وقدْ جرحوا السماءَ بقولهم:
كيفَ الغريبُ بلا ترابٍ 
يشتهيهِ يُـــلَحّـدُ
جرحُ الزمانِ يدُ الزمانِ تـشـــدّهُ
والجرحُ في الأوطانِ لا يتضمّدُ

النشيد الرابع: 

رحلوا
ولم ينسوا بقايا نخلةٍ
شهدتْ ولادتهمْ 
وكانتْ تحفظ الأحداثَ
منذُ توقّفِ الطوفانِ
منذُ تفتّحِ الإنسانِ
في حقلِ الخطيئةِ
حدثتهمْ عن تشعّبِ نسلِ نوحٍ
في خطوطِ العرضِ
أقصى الأرضِ
قالتْ: كانتِ الألوانُ واحدةٌ
تشعُّ من الجلودِ الآدميةِ
لكن اختلفوا على لونِ الهديّةِ
حينما سقطتْ عليهمْ من سماءٍ ضيّعوها
فاستعاروا إرثَ من سبقوا خطاهم في شعابِ الأرضِ
واختلفتْ نفوسهمُ
وسالتْ فوقَ لونِ الجلدِ
فاقتتلوا 
وما عرفوا بأنهمُ الضحيّة ُ
لا الهديةْ/
قالت: وأيضًا كانتْ اللغةُ القديمةُ واحدة ْ
لكنّ نوحًا صاحَ صوتًا
زلزلَ الآفاقَ
فاختلفتْ بترديد الصدى
قممُ الجبالِ
فشـُـكّـلتْ كلّ اللغاتِ
وظلَّ أصلُ الصوتِ موجودًا
بلا وعي النفوسِ
وكانتِ النفسُ القديمة كالبحيرةِ راكدةْ
لكنّ أحجارًا من الشيطانِ قد وقعتْ بها
فتحرّكتْ بدوائرٍ متوالدة.
من نقطةٍ في أصلِ مركزها القديمِ
وكلما اتسعت أضافتْ للخطايا كذبة ًمتجددةْ.
قالوا لها يا أمّ: هل يتطوّرُ البشريّ كي يرقى بشكلِ الروحِ
قالتْ: عندما يتطور البشريّ منسلخًا عن التاريخِ
يزدادُ التوحّشُ في أنينِ الروحِ
والأجسامُ إنْ تصعدْ إلى الأعلى بدونِ بصيرةٍ
تهبط إلى الأدنى النفوسُ
لذاكَ أهلُ القبوِ أكثرُ رفعةً وأقلّ سوءًا
ممّن احتلّوا السطوحَ
وصارَ يقلقُهمْ ضياءٌ شعَّ من جنحِ الطيورِ الصاعدةْ. 
*

قالتْ لهمْ:
كنتم هنا
حينَ انحنى ظهرُ السماءِ
فسالتِ الأنهارُ منهُ
إلى ينابيعِ الفراتِ 
ولا تزالُ مياههُ تشتاقُ للصلواتِ
في ظهرِ السماواتِ النقيّةِ
كنتم الأشهادُ 
عندَ مغارةٍ مرّتْ عليها
قافلاتُ الفرسِ والرومانِ
واحتربوا طويلًا قربها
وتكسّرتْ عرباتهم وسيوفهمْ
ومضوا 
وريحُ خريفهمْ 
مـَـزجتْ بأعرافِ الخيولِ
روائحَ الأمطارِ في أيلولَ
كي يتذكّروا أنّ السهولَ 
هنا 
لها نكهاتُ أوراقٍ تفوحُ
من احتراقِ بخورها في الذاكرة
كنتمْ
وكان هنا نبيّ مثقلٌ برطوبةِ الأمطارِ
مثلُ سنابلٍ خضراءَ في وسطِ اللهيبِ
تـُـصَـبُّ أنهارُ الحريقِ ولا يذوبُ
وذوّبَ الأنوارَ حولَ النارِ 
حوّلها دروبْ.
كنتمْ وكانَ أبًا رحيمًا
كان مفتاحَ المعارفِ والغيوبْ.
قربَ البليخِ 
وتحتَ ظلِّ التينِ
قطــّـرَ روحهُ ماءً على عطشِ المعابدِ
فاستحالتْ روضةً فكريّةً
فيها الذبيحُ وراكبُ الريحِ القويُّ
وصاحبُ العصا 
والمعبّرُ والمعلّمُ والطبيبْ.
*

قالوا لها من نحنُ؟
ماهيّ نسبةُ العربيّ في أمطارِنا؟
ما نسبةُ الكلدان والآشور والسريانِ في أسمائنا؟
ما نسبةُ الكرديّ في أشجارنا؟
ما نسبة الأتراكِ في آبارنا؟
ما نسبة ُالأزهارِ في أمواتنا؟
ما نسبة ُالأحلامِ في أصواتنا؟
قالت لهم: أنتمْ مزيجُ الصبغة الأزلية الموحاةِ 
للماءِ الفراتيّ العظيمْ 
أنتمْ طريقُ الريحِ في نايٍ رخيمْ 
أنتمْ حكاياتُ البلابلِ في الكرومْ.
أنتمْ مرايا الغيبِ
بوتقة الشعوبِ
من الشمالِ إلى الجنوبِ
حديقة الذكرى
وأرشيفُ الزمانِ.

النشيد الخامس:

رحـَـلـوا 
وفي الخابورِ ظِلُّ الزلّ والصفصافِ
يحرسُ قبلةَ العشّاقِ حتى يرجعوا من غابةِ التيهِ البعيدةِ
تنظرُ امرأةٌ لقرصِ الشمسِ
تذكرُ ليرةً ذهبيّةً في شالِ ليلةِ عرسها
وسوارَ ابنتها الشهيدةِ
ينهضُ الكهلُ الكبيرُ على عصاهُ
فتخسفُ الأرضُ الجديدة
قوّة الإنسانِ من أرضِ الولادةِ
لا من العكّازِ 
كيفَ سيورقُ الصفصافُ في أرضٍ
من الأنهار خاليةٍ بعيدة.
كانتْ مصاطبهمْ
لقاءَ روائحِ النعناعِ بالقمرِ المضيءِ
وضحكةِ الطفلِ البريءِ
ولمّةِ الفتياتِ تحتَ حبائلِ اللبلاب 
ينثرنَ الكلامَ كأنهُ شعر دمشقيَّ الأريجْ.
كانتْ بساتينُ الخضارِ بلا سياج
سيّجتها الأغنياتُ 
تصدُّ عنها 
أسطوانات التأدلجِ 
لمْ تكنْ آبارهم تهتمُّ
إن كانت دلاءُ الواردينَ
حبالـُـها عربية الأليافِ أم كرديّة ٌ
لم يعبؤوا بالريحِ عندَ لقائهم
من أيّ ناحيةٍ تـــهـيــجْ.
ما الفرقُ بينَ قصيدةِ العربيّ والكرديّ 
في المنفى
إذا اتفقا بقافيةِ النشيجْ.
لمْ يصرخ السيّابُ في الأوجاعِ إلاّ يا خليجْ.
*

يا سيّدَ الأوجاعِ. يا شرطيّ دائرةِ النزوحِ
ارفعْ سياطكَ عن ظهورِ اللاجئينِ
وخذْ لترضى رشوةً من عمرهم.
واغفرْ لهمْ كي يرجعوا يومًا
إلى البيتِ القديمِ
يرممونَ شقوقَ حائطِهِ إذا ما كانَ
أو يبكونَ أطلالَ الحجارةِ
يوقظونَ الفجرَ بالريحانِ
بالخبزِ الصباحيّ الشهيّ
يرممونَ قبورَ موتاهمْ
يزورونَ الغروبَ مع التلالِ
ينكّهونَ الهالَ بالقصصِ الجميلةِ
ينشرُ الأطفالُ أحلامَ المساءِ على الهلالِ
يسيّلونَ الروحَ في الوديانِ
يستشفونَ من وجعِ الخيالِ
ويرجعونَ إلى جلالةِ صولجانكِ
أيها الشرطيّ. يا ملكَ اللجوءِ
كفاكَ سخريةً 
فإنّي من سياطكَ أهزأُ
أحتاجُ أنثى لا تفاوضني على 
شكلِ العناقِ ولا لظاها يهدأُ
أحتاجُ حرقتها لتطفئَ حرقتي
عدلًا يبرّئـــــني ولا يـــتبرّأُ/

النشيد السادس:

صغيرًا كنتُ والأزهارُ تفهمني
وتعرفُ أنّ لي بيتًا 
حسبتُ بأنهُ يبقى
كعشٍّ دافئٍ وطني
وكنتُ على يدي أمّي
أقيسُ بنبضها زمني
وأبصرُ وجهها كونًا
من الدنيا يطمئنني
وكانَ أبي أمامَ البيتِ
في النظراتِ يحملني
وكنتُ أجيدُ فهمَ الصّوصِ
أطعمهُ ويلحقني
كبيرًا صرتُ والأزهارُ 
أبصرُها وتجرحني
ونامَ أبي على غدهِ
يطرّزُ ذكرهُ كفني
وأفهمُ لعبةَ الأقدارِ
أبعدُها وتتبعني
أشدّ رؤايَ نحو البيتِ
تسحبـُـها إلى دوّامةَ المحنِ
هويّتنا على الذكرى معلّقة ٌ
فكيفَ سيصبحُ النسيانُ نعمتنا
إذنْ نحيا
بلا زمنٍ
ولا أملٍ
ولا وطنِ.

النشيد السابع:

كانتْ رياحُ العُرْبِ أغنيةَ المحاربِ والعشيقْ
صارتْ رياحُ العـُـرْبِ تسليةُ المنافقِ والصفيقْ
صارَ الطريقُ إلى القيامةِ طلقةً
لا وردةً
منْ يقنعُ العربيّ أنّ الوردَ خارطة الطريقْ؟
منْ يذبح ُالقربانَ كي ترضى الحروبُ 
وينقذُ الأجيالَ من هذا الحريق؟
مـَـنْ يبعدُ الأفعى عن الأعشاشِ
فالأفراخُ ترجفُ
لا لها أمٌّ 
أليسَ لزُغـْـبها أثرٌ على نفسِ الكريمِ
متى نرقّ ونستفيقْ؟
كمْ شاعرٍ نزفَ الكلامَ 
على طريقِ الأنبياءِ
وكمْ سراجٍ أشعلَ الشعراءُ
من فمهمْ ومن دمهمْ
على دربِ الظلامِ
وأطفأتـُـهُ 
عواصفُ الفكرِ المدّججِ بالرزايا
والخفافيشُ الكثيرةُ
كمْ قتلنا الأنبياءَ 
ونحنُ ندخلهمْ إلى ساحاتِ مسرحنا
ونعرضهمْ كصناعِ التطرّفِ
آمري حربٍ
مُرابيّينَ
تجارٍ
أليسَ هناكَ من مطرٍ يطهّرنا ويـُـنبتـُنا سلامًا/
هلْ هذهِ العربية الفصحى اليتيمة يا تـُرى
أم نحنُ قد صرنا يتامى؟
لو أنني لصٌّ عديمُ اللونِ
لاجْـتحتُ العروبةَ أسرقُ الآياتِ والأزهارَ والأشجارَ والأطفالَ والطيرَ البريء
وطرتُ نحوَ كواكبٍ تهتمّ بالبشريّ 
تمنحنا مقامًا/
*

عُميَ المعرّي كي يرى الأنوارَ أنقى من صباحٍ لا يُري إلا الدماءَ
وسافرَ الحلّاجُ مغتربًا
لأنّ وكالةَ النّص المقدسِ زوّروها باسمهم
ليسيّجوا علمَ الإلهِ المطلقِ الأبديّ 
والسيابُ يقتلهُ العضالُ ليشفيَ النخلَ الحزينَ
من السمومِ
هواؤنا سمٌّ غريبُ الفكرِ
درويشٌ أتتهُ ثلاث ذبحاتٍ
وهذي الأرضُ لم تعرفْ سلاما/
*

قلبي بلا لغةٍ تغمّسَ بالأنينِ
وعادَ منظومَ الحنينِ 
إلى بداياتِ الخطى
تفعيلةً، تفعيلةً
قلبي يحبّكِ يا بلادي 
فاحضنيهِ، ولا تريهِ دموعَ خدّكِ
وأسمعيهِ غناءَ عرسكِ
واصلبيهِ 
متى سأبصرُ ضفتيكِ من الخليجِ إلى المحيطِ حمامتينِ
متى أرى كفيّ فوقكِ زهرتينِ
أكلما أنهيتُ قافيتي 
بدأتُ أسرّحُ الأشعارَ مغشيًّا علي من الحنينِ
أكلما أفرغتُ ينبوعًا تفجرَّ آخرٌ
فلترحمي حبّي 
فحتّى الأنبياءُ لهم مواعيدُ ارتجافِ الوحي
لكنْ وحيُ حبكِ لا يخفُّ من الجنونِ
تعبْتُ من تجديلِ أغصانِ المعاني بالحروفِ السمهرية
في فضاءات الخيالِ
وكلما حررتُ قلبي من حداءاتِ الغنائيينِ
ألقتهُ مليشياتُ الكلامِ الفوضوي بسجنها
صبرًا جميلاً يا بلادي
سوفَ تهتفُ باسمكِ
الأيامُ
عاليةً
ورائدةً
وقائدةً
وسيدةً
وينقشعُ الظلامُ
وتشرقُ الأنوارُ
يبعثها السلامُ
فكمْ أحبكِ.

اقرأ/ أيضًا:

سبعة أناشيد لأرضِ القيامةِ (1- 2)
الذي يفقد ظله