04-يونيو-2016

(Getty)

(1)

الزمان 10 كانون الأول/ديسمبر 2010، فاز الرئيس أوباما بالانتخابات الرئاسية منذ قرابة العامين، وأيًا من وعوده لم ينفّذ بعد، مازالت الرعاية الصحية للأغنياء فقط، الطبقة الوسطى ما زالت تعاني، شهدت الولايات المتحدة تحسنًا نسبيًا عن وقت الرئيس السابق جورج بوش الابن ولكن الوعود الانتخابية لم تنفذ بعد انتهاء نصف المدة الانتخابية تقريبًا.

استطاع بيرني ساندرز الاحتفاظ بكرسيه في مجلس الشيوخ كمستقل لأطول فترة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية

مجلس الشيوخ الأمريكي لا ينتقد الرئيس لعدم تنفيذ وعوده، الجمهوريون أعداء الرئيس سعداء بالوضع فسياستهم ما زالت مستمرة بشكل أو بآخر، ولا أحد من الديموقراطيين يريد أن ينتقد الرئيس المنتمي لحزبهم، ولكن لا بد لأحد أن يفعل شيئًا ما، الرهان الآن على المستقلين بالمجلس، يعدّون على أصابع الأيدي لكنهم الأقوى، لأنهم يستطيعون ترجيح الكفة في التصويت، لا يستطيع المستقلون عادة الاستمرار في المنصب، إما بسبب ضعف تمويل حملاتهم حيث يموّل رجال الأعمال حملات الأحزاب، أو لأنهم في النهاية يضطرون للانضمام لأحد الأحزاب للاستمرار، رجل واحد فقط استطاع الاحتفاظ بكرسيه كمستقل لأطول فترة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بدون دعم أي من الأحزاب أو رجال الأعمال، كسب شعبية ضخمة ويدفع العمال أنفسهم تبرعات حملته، يدفع المؤمنون به في المتوسط 27 دولارًا أمريكيًا لتمويل حملته الانتخابية، ولكن لكثرة عدد المؤمنين به فإن التمويل يصل لملايين الدولارات في النهاية.

يقف السيناتور بيرني ساندرز في مجلس الشيوخ الأمريكي، يرتب أوراقه ثم يبدأ بالكلام عن قانون الضرائب الذي تتم مناقشته الآن في المجلس، سيقوم هذا القانون بالحد من إنفاق الحكومة على التعليم، وسيخدم الأغنياء ويزيد من معاناة الطبقة الوسطى التي قاربت على الاختفاء، يبدأ ساندرز بالحديث وينتقد الرئيس أوباما وسياساته التي تزيد الأغنياء غنى والفقراء فقرًا، يبدأ في الكلام بشكل منظّم وعقلاني عن حق الطبقة الوسطى أن تعيش في أمان، عن حق الفقراء في التعليم والضمان الاجتماعي، سيصوّت أغلبية المجلس على إصدار القانون لأن الديمقراطيين والجمهوريين قد عقدوا صفقة للتو واتفقوا أن يصوّتوا سويًا على إصدار القانون، وكالعادة لا تخلو الصفقات السياسية من قذارة ما، تحاول عضوة المجلس ماري لاندرو التبرير للقانون الذي تقدمت هي نفسها باقتراحه، لكنها تعجز عن الكلام في النهاية، قام ساندرز بفضح كل ما حدث وقام بتوضيح كل شيء.

لن ينسى التاريخ أن أحد نواب الشعب الأمريكي ظل يتحدث لثماني ساعات ونصف متواصلة محاولًا إيقاظ ضمير كل نائب ليقول لا

 استمّر خطاب ساندرز ثماني ساعات ونصف الساعة، لعلك تفكر في أنها كانت أكثر الجلسات مللًا في تاريخ البرلمان الأمريكي، ولكنها لم تكن بالتأكيد، في كل كلمة قالها بيرني ساندرز شيء جديد، مع كل جملة يدحض كل ادعاءات الأعضاء في أن القانون لمصلحة الشعب الأمريكي. ولكن من يعبأ؟ ...تم التصويت على أيّة حال وقام المجلس باعتماد القانون، لكن التاريخ لن ينسى أن أحد نواب الشعب الأمريكي ظل يتحدث لثماني ساعات ونصف متواصلة محاولًا إيقاظ ضمير كل نائب ليقول لا، تعطّل موقع مجلس الشيوخ الأمريكي بسبب كثرة زوار الموقع الذين شاهدوا الخطبة عبر البث المباشر. في حين تحول نص الخطبة إلى كتاب ووصل إلى قائمة أكثر الكتب مبيعًا وتبرع ساندرز بكل أرباحه للجمعيات الخيرية، نصير الفقراء لا يريد أن يصبح غنيًا.

اقرأ/ي أيضًا: فهم الاستراتيجية الصينية عن طريق ثقافتها

(2)

الأمل.

كمفتاح الجنة

تملكه

فتكون نجوتْ

لكن الجنة ندخلها

في الأحلام.

وبعد الموت!

(أحمد دومة)

 

(3)

هربت عائلة ساندرز من اضطهاد اليهود بألمانيا، أتوا لبلد الحرية والديمقراطية، أقاموا في نيويورك وتربى بيرني على رفض الاضطهاد الذي واجهته عائلته، كانت عائلة ساندرز فقيرة لدرجة أنه لا يستطيع أن يحصل على مصروف مثل أقرانه في الدراسة، وكان أبو ساندرز مجتهدًا بحق، لكن في أمريكا الغني يبقى غنيًا والفقير يظل فقيرًا مع بعض الاستثناءات، فتربى على رفض الفقر والظلم الاجتماعي، نشط مدافعًا عن حقوق كل المضطهدين، دخل جامعة شيكاغو وبدأ نشاطه السياسي، تم القبض عليه في عام 1963 أثناء مظاهرة للحق في التعليم، بعد الإفراج عنه سافر إلى واشنطن فقط ليشارك في المظاهرة السياسية الأكبر في تاريخ البلاد، المسيرة التي انتهت بخطاب مارتن لوثر كينج الأشهر (عندي حلم/ I Have a Dream).

تخرج من الجامعة وعمل كاتبًا وصانع أفلام وترشح لمجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية فيرمونت لعام 1971، لتترشح للمجلس عليك أن تنضم لأحد الحزبين الكبيرين الديمقراطي أو الجمهوري، ولكن ببساطة لا يمكن لساندرز فعل هذا، كلا الحزبان وجهان لعملة واحدة، ترشح على أحد الأحزاب المغمورة (حزب الاتحاد الحر) وحاز على 2٪ فقط من الأصوات، ولأن الأمل جزء من شخصيته، ترشح بعدها لمنصب عمدة فيرمونت، وحاز هذه المرة على 1٪ فقط من الأصوات، ترشح مرة أخرى لمجلس الشيوخ ليحصل على 4٪ من الأصوات، ثم ترشح لمنصب عمدة فيرمونت مرة أخرى ليحصل على دعم بعض العمال والمطالبين بحقوق المرأه ويأخذ 6٪ من الأصوات هذه المرة.

خاض ساندرز أربعة انتخابات متتالية، لم يتعد نصيبه من الأصوات فيها الـ 10٪، لكن الحالم لا يوقفه شيء

أربعة انتخابات متتالية لم يتعد نصيبه من الأصوات فيها الـ 10٪ ولكن الحالم لا يوقفه شيء، ترشح بعدها لمنصب عمدة بيرلنجتون أكبر مدن فيرمونت، هذه المرة استطاع إيصال صوته لأنصار البيئة والمدافعين عن حقوق المرأة، والأقليات، واتحادات العمال، ووقت الفرز كانت المفاجأة، فاز بيرني ساندرز بفارق 14 صوتًا فقط عن منافسه، كيف يفوز شخص ليس من الحزبين الكبيرين، كانت صدمة للجميع وطالبوا بإعادة فرز الأصوات وعند إعادة فرز الأصوات واستبعاد الأصوات المشكوك في صحتها، اتضحت النتيجة، فوز بيرني ساندرز بفارق عشرة أصوات، عشرة أصوات فقط، من أصغر الفوارق في تاريخ السياسة الأمريكية، ومن منصب إلى منصب، حاملًا رسالة الدفاع عن الفقراء والمضطهدين أصبح ساندرز العضو المستقل الوحيد الذي استطاع الاحتفاظ بكرسيه في مجلس الشيوخ لكل هذه الفترة في التاريخ الأمريكي.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا ينجح داعش في استقطاب الأشخاص العاديين؟

(4)

المجد للشيطان. معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم"

من علّم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا". فلم يمت،

وظلّ روحًا أبديّة الألم!

(أمل دنقل)

 

(5)

العالم على صفيح ساخن والأنظار تتجه نحو القوة الأعظم، أمريكا، أزمة اللاجئين، الشرق الأوسط يشتعل، الأزمة الاقتصادية تأكل الطبقة المتوسطة الأمريكية، يصعّد اليمين الأمريكي خطابه لأقصى درجة، يظهر دونالد ترامب الذي يريد طرد كل المسلمين ومراقبة الميكسيكيين وينظر للمرأة على أنها سلعة جنسية، يكفيك أن تعرف أن مرشح الجمهوريين في هذه الانتخابات دونالد ترامب هو المرشح الرئاسي الأمريكي الوحيد الذي أبدى إعجابه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتعرف عن ماذا نتحدث.

كل ما سبق يجري بينما تتجه الأنظار إلى نفس الشخص، يضطر ساندرز للانضمام للحزب الديمقراطي ليتنافس مع نائبة الرئيس الحالي سيئة السمعة، تلاحقها الفضائح والتسريبات ولكن يدعمها كل رجال الأعمال بكميات ضخمة من الأموال، ولأن نظام التصويت فاسد فإنها قد بدأت الانتخابات بضمان 521 صوتًا من أصوات المرحلة الثانية ممن يسمون المندوبون الكبار، وهم أعضاء في الحزب صوت الواحد منهم يكافئ قرابة الألفي صوت من الأعضاء العاديين وغير ملزمين بالتصويت لأي شخص من قواعد الحزب، استطاعت هيلاري جمع 280 مليون دولار لتمويل حملتها من رجال الأعمال حيث يتبرع الشخص بأكثر من 10 آلاف دولار، بينما جمع بيرني 270 مليون دولار من فقراء الشعب، متوسط التبرع الواحد 27 دولارًا فقط، لم يقبل دولارًا واحدًا من رجل أعمال فهو يخوض الانتخابات تعبيرًا عن الفقراء.

"عندما تأتيك الأموال من شخص سيتحكم بك، فلا تسأل أية أسئلة" فرانسيس اندروود - هاوس أوف كاردس

(6)

هل يصبح الحلم ممكنًا؟

فاز بيرني بواحد وعشرين جولة حتى الآن، خسر الكثير من الجولات بسبب أصوات المندوبين الكبار، نظام الانتخابات فاسد لدرجة أنه عندما تعادل في إحدى الولايات لجأ المحكمون لعمل قرعة لتحديد الفائز، ومازال أمامه ثماني جولات، إحصائيًا فإن فوز بيرني ساندرز يعتبر مستحيلًا، ولكن ساندرز الذي يبدو أنه لا يعرف المستحيل لم يوقف حملته بعد، وقرر أنه لن يوقفها إلا بعد فرز آخر صوت انتخابي، فالرجل الذي حصل على 1٪ فقط من الأصوات يومًا ما، ابن المهاجر الفقير الذي لم يكن يجد ما يسّد رمقه يكتب التاريخ الآن ويقيم أول حملة انتخابية قائمة على دعم الفقراء، يحمل آمال الملايين الذين انتخبوه وتبرعوا له ليكون أول رئيس أمريكي غير مستند على رجال الأعمال وأصحاب الأموال.

أول مرشح في التاريخ الأمريكي يقول على نفسه أنه اشتراكي بدون مواربة، ويلقى هذا الدعم الجارف من الشباب والسيدات والعمال والطبقة الوسطى، أول مرشح لا يخجل أن يقول أن التعليم الجامعي حق ويجب أن يكون مجانيًا، مبديًا تقززه في أكثر من مناسبة وخطاب من حجم القروض التعليمية التي يحملها الطلبة الجامعيون في الولايات المتحدة، ولا يخاف اللوبي الصهيوني ويقول في عقر داره بنيويورك أن على إسرائيل احترام حقوق الفلسطينيين، فالفلسطينيون أصحاب حق.

تشير الاستطلاعات إلى أن هيلاري كلينتون لن تستطيع الفوز أمام المرشح العنصري دونالد ترامب لكن ساندرز سيفوز عليه بسهولة، ومع أننا هنا في الشرق الأوسط لا نملك أي شيء بخصوص الانتخابات الأمريكية إلا إنه سيكون له دور محوري في تحديد مصير المنطقة بأكملها، وما علينا إلا أن نأمل أن تتحقق المعجزة ويفوز ابن المهاجر الفقير بكرسي الرئاسة!

اقرأ/ي أيضًا:

الدستور الليبي جاهز..ماذا بعد؟

السلطة الفلسطينية.. فشلت حتى في زراعة البطيخ