12-سبتمبر-2018

اللوحة للكاتبة

أنا اسمي ساشا.

هذا ما فهمته بعد بضعة أشهر من سماعي لهذا النغم.

لا أعرف معناه، ولكني بتُّ أعرف أنّه حين يُنادى به وأسمعه، أكون أنا المُنادى عليها والمقصودة به، فصرت مع الوقت ألتفت لمصدر الصَّوت تلقائيًّا.

أنا طبعًا لا أعرف الكتابة ولا القراءة ولا حتى الكلام، وبالكاد أعي ما يدور حولي من قبل هذه الكائنات المحيطة بي والمختلفة عنِّي على الأقل من ناحية الشَّكل، ولكن يبدو أنَّ إحدى هذه الكائنات تشعر بذنبٍ عميقٍ اتجاهي، وتحتاج للكتابة باسمي كي ترتاح قليلًا وتكفّر عن الذنب الذي تظنُّ أنّها اقترفته، فسأتركها تفعل ذلك عله ينعكس عليَّ بفائدة ما أنا أيضًا.

عندما أحضروني إلى هذا المكان، كنت صغيرة جدًّا وكان الطقس باردًا. مجيئي أربكهم أكثر ممَّا أربكني ولكني شعرت أنّهم أحبُّوني. كانوا يتناوبون على إطعامي وعلى لمسي وحملي بين أيديهم وكلما نظروا إليّ كان شقٌّ واسعٌ يظهرعند أسفل وجوههم كاشفًا عما فهمت لاحقًا عندما أصبح لدي مثلها أنّها أسنان، وتأكّدت مع الوقت أنّ ظهور هذا الشقّ مقترن بشعور بالفرح عندهم. لا بدّ إذًا أنِّي كنت أفرحهم. لن يفاجئني هذا الأمر كثيرًا، فقد كنت صغيرة جدًّا وغير متطلِّبة، لا أسنان لي ويغطِّيني وبرًا ناعمًا. سمحوا لي أن أنام في أسرَّتهم وأجلس على كنباتهم وفي أحضانهم. الأوقات القليلة التي يختفي خلالها هذا الشق عن وجوههم كان عندما أقرفص لأخرج من أحشائي ما شربته وتناولته سابقًا. كانوا يصرخون بي إذا ما فاجأوني خلال فعلتي هذه محاولين تدارك الأمر وكان صعبًا عليّْ أن أفهم في بادئ الأمر لما كل هذا الصُّراخ، وطبعًا لم يكن بوسعي أن أوقف ما كنت أفعله إلا عندما أنتهي تمامًا منه. ولكنني لاحقًا فهمت وتفهّمت هذا الأمر. فالرَّائحة المرافقة كانت مزعجة. وكنت أسبِّب فوضى بفعلتي المتكررة هذه في أماكن متنوعة وأحيانًا حيث يجلسون، فيضطروا للتنظيف مرارًا لإزالة آثاري المقرفة، نعم لا بد من الاعتراف أن آثاري كانت مقرفة، كنت أنا نفسي أقرف منِّي بعد فعلتي، ولكن لم يكن بيدي حيلة، ولا بمؤخّرتي.

مع الوقت تفاهمنا. هم استطاعوا ربط موعد تناول الطعام بموعد قضاء حاجتي وأنا صرت أنبِّههم بأن أذهب وأقف أمام الباب ليلاقوني ويفتحوا لي الباب للخروج إلى الحديقة حيث بدا لي أن لا مشكلة في قضاء حاجتي فيها، وهكذا تخلّصوا من قرفي وتخلّصت أنا من تأنيبهم لي وصراخهم اسمي بأصواتٍ غاضبة أو ضربي ضربات خفيفة على مؤخرتي التي وإن لم تكن توجعني إلا أنَّها كانت تحرجني، خاصة إن حدث ذلك بحضور زوارهم.

كانت لديهم عادة غريبة بتنظيف مؤخرتي. كانوا كلّما قضيت حاجتي من أي نوعٍ مسحوا مؤخرتي بمنديل معطّر، مرفقة بكلمات تشجيع وإطراء طبعًا بعدما بدأت الالتزام بالمكان المخصص لقضاء هذه الحاجة، وما لبث أن ألِفتُ تنظيف مؤخرتي بهذه الطريقة بعكس عادة الاستحمام الشهرية التي لا تزال بمثابة عقاب، بالرُّغم من كل محاولاتهم لاسترضائي أثناء وبعد الاستحمام. المياه كانت خطًّا أحمر بالنِّسبة لي ولم نتَّفق على هذا الامر أبدًا حتّى يومنا هذا.

مع مرور الأيام، بدأت أظن أنّي أصبحت ملكهم أو واحدة منهم، لست أكيدة تمامًا لأني لا أفهم الصيغة المعتمدة لدى هذه الكائنات ولكن ما أعرفه أني ومنذ لحظة وصولي عندهم بقيت معهم حيث يقيمون وعلى ما يبدو أنه أصبح مكان إقامتي أيضًا لأنهم لم ينقلوني إلى مكانٍ آخر إلا أنهم كانوا يأخذوني معهم لقضاء مشاويرهم ولأوقات قصيرة.

كانوا أربعة أشخاص موجودين بشكل دائم ويتناوبون على الاهتمام بي. واحدة منهم لم أشعر أنها تحبني وكانت تتجنَّبني وتشير بيديها اتجاهي كأنها تطلب مني أن أبقى بعيدة عنها، وقد رضخت لرغبتها لأنّها أصلًا كانت مسالمة وتجلس على الكنبة نفسها كل النهار وترتدي اللون الغامق نفسه كل يوم. أمَّا الثلاثة الباقون فاهتموا بي بكلِّ حب وأحاطوني برعاية دائمة وبشقٍّ دائم أسفل وجه كلٍّ منهم.

كان يوجد أيضًا شخصٌ خامسٌ لكنه لم يكن مقيمًا معنا. كان يأتي بشكلٍ أسبوعي وينام ليلة أو أكثر، وأحيانًا ينام في الغرفة التي أكون قد اخترت أن أنام فيها كونهم كانوا يتركون لي قرار اختيار بغرفة من سأنام كل ليلة كأنهم كانوا يتبارون فيما بينهم من منهم سأختار. كان هذا الخامس لطيفًا وكنت أحبه وأقفز عليه عندما يأتي بالرُّغم من أنّه لم يفعل الكثير لإرضائي ولكني كنت أشعر أنَّ طريقته في إظهار حبّه مختلفة ولم يزعجني هذا الأمر بل العكس كنت أنتظر حضوره وأمضي فترة مكوثه ملتصقة به.

كانوا عائلة هادئة بشكل عام وكنَّا نجلس كثيرًا معًا دون أن نتحدث. إحداهنَّ كانت كثيرة التَّأمل والعزلة ويبدو أني أخذت بعض صفاتها لأني أصبحت مع الوقت أميل للجلوس على الكنبة مقابل النَّافذة وأتأمل الحديقة أو السَّماء أو أنتظر أن ألمح كائنًا يشبهني وله ذيل مثل ذيلي، لأن أيًّا من  المخلوقات الخمسة الذين عشت معهم لم يكن لديه ذيل.

أحببتهم فعلًا. وتغاضيت عن الاختلاف الذي بيننا. كانوا يستيقظون لأجلي باكرًا ويخرجوني لقضاء حاجتي في البرد وتحت المطر، يلعبون معي قبل حتى أن يغادروا فراشهم، ويقبلوا أن أشاركهم فراشهم بالرغم من احتلالي لجزء ٍكبيرٍ منه لأنَّ حجمي كان يكبر بشكلٍ سريعٍ ولم أكن أُعير انتباه لترك مساحة كافية لهم على فراشهم. كنت آكل معهم، ثلاث وجبات يوميًّا ويغيّرون نوع الطَّعام إذا ما عبّرت عن عدم إعجابي بصنفٍ ما، وفي البرد كانوا يغطُّوني حتى أنّهم ألبسوني ملابس كتلك التي يرتدونها، في البدء أزعجني الأمر ولكنني أحببته لاحقًا لأني شعرت أني بدأت أشبههم أكثر. كانوا يحضنونني كثيرًا ويطبعون شفاه كثيرة على وجهي ورقبتي ويصدرون صوت مع كل طبعة، وكان هذا الأمر يُضفي إحساسًا جميلًا لدي ففهمت أنّه فعل تحبُّب منهم، فصرت بالمقابل ألحس وجوههم وأيديهم وأقدامهم لأني لم أتمكن من إصدار ذاك الصوت الذي يصدرونه هم، وصرت أحشر نفسي تحت أقدامهم أو قربهم وهم على كنباتهم. وأجمل اللحظات كانت عندما يطعمونني من الطعام شهي الرائحة الذي يتناولونه هم. وكنت دائمًا أنجح بأن أستدرُّ عطف أحدهم ليطعمني بيده حتى لو كنت قد تناولت الطعام الخاص بي. أحيانًا كانوا يفعلون ذلك بالخفاء عن بعضهم البعض. شعرت أن لنظرتي البريئة اتِّجاه عيونهم هذا التأثير القوي فاعتمدته كلَّما احتجت لأمرٍ ما.

كان كلّ شيء يسير بشكلٍ جميلٍ، وعلاقتنا تطورت تدريجيًا حتى أصبحت أشعر أني لا أختلف عنهم وأن كنت لا أفهم هذا الصوت الذي يتواصلون معي ومع بعض من خلاله. إلى أن غادر في أحد الأيام الاثنان اللذان كانا يتشاركان غرفة واحدة وسرير واحد بعد أن حضناني كثيرًا وشعرت بنقاط ماء كثيرة دافئة تنهمر من وجه الفتاة على رقبتي. ولم يعودا.

وبعد بضعة أيّام أخذتني تلك التي تتأمل مثلي إلى مكان بعيد، مكان جميل وفيه الكثير من الكائنات التي تشبهني وتتحدث لغتي. لم أتمالك نفسي من الفرحة.

شاهدتها من بعيد تتأملني وتبعتد بعيون حزينة،  لكنّني كنت ألعب حينها ولم أظنّْ أنها ستغادر من دوني. أتينا معًا، فطبيعي أن نغادر معًا كما يحصل عادة عندما تأخذني معها إلى مكانٍ ما. لكنها غادرت بدوني هذه المرة. هذا ما أدركته عندما لم تأت لاصطحابي بعد انتهائي من اللعب. تركتني بعهدة شخص طويل ضخم وضعني في قفص كبير ملاصق لأقفاص أخرى كبيرة، حيث لا سرير ولا كنبة ولا نافذة فيها، إنما فقط كائن من صنفي يلحس ولا يعرف أن يقبّل.

كنت لا أزال مستغربة مغادرتها لي وعندي بعض الأمل أنها ستعود بعد قليل حين شعرت بالحاجة لأن أقضي حاجاتي والقفص كان مقفلًا، ولم أتمكن من شمّ بقعتي التي تعودت قضاء حاجتي فيها. لم أر حديقتي أصلًا بالرغم من أني كنت محاطة بطبيعة شبيهة بها وربما أجمل ولكنها ليست حديقتي. ولم أر أحدًا أعرفه كي أنبهه أني بحاجة للخروج حيث بقعتي المخصصة لقضاء حاجتي كي لا يغضبوا مني إذا فعلتها حيث أنا. انتظرتها وعندما فقدت الأمل من عودتها وفقدت القدرة على السيطرة على بولي قضيت حاجتي حيث أقف وحيث لاحقًا نمت وحيث يوجد سطل ماء كبير وشِباك مرتفعة تفصلني عن أبناء قومي بحيث يمكننا رؤية بعض والركض دون أن نتلامس، وحيث لا يوجد أحدًا يمكنه مسح مؤخرتي بالمناديل المعطرة التي انتبهت فجأة أنني اشتقت لرائحتها.

لم يأت أحد منهم لزيارتي. غيَّروا نوع طعامي وقللوا وجباتي لاثنتين بدلًا من ثلاث. لم يربت أحد على وبر رأسي وظهري وبدوري لم ألحس أحد.

شخص ما كان يأتي كل صباح يأخذني ويمشي قربي ويردد كلمات محددة كأنه يريد مني أن أنفِّذ ما تعنيه هذه الكلمات. لم يكن لدي مانع أن أنفِّذ ما يريده، سيان بالنسبة لي. وعندما كنت أتمكن من فهم ما يريده وأقوم بتنفيذه كان يربت على رأسي لأقل من لحظة. لم يكن الأمر مغريًا، ولكني كنت أريد أن أنتهي من هذا الأمر آملة أن يكون إنجازي هذا سيعيدني إلى منزلي.

لم يغيروا لي الماء. الماء معكَّر. كيف سأشربه؟ أنا عادة لا أشرب ماءًا معكرًا. يجب أن يدركوا هذا الأمر. ربما لا يعرفون أني مدللة حيث كنت. يجب أن يفهموا أني عادة لا أنام حيث أقضي حاجتي. ولا أفهم لماذا تعوي كل هذه الكائنات من حولي طيلة الوقت؟ كوننا ننتمي لنفس النوع لا يعني أن عليَّ أن أحتمل ضجتهم.

لا بدَّ أني أزعجت أصدقائي كثيرًا حتى غادرني اثنان منهم ثم تم إحضاري إلى هنا من قبل الثالثة المتأملة. ربما كان يفترض بي أن أتجاوب أكثر مع مسألة الاستحمام. ربما هذا السبب دفعهم للتخلي عني خاصة أن وزني كان قد أصبح ثقيلًا والسيطرة علي أصبحت صعبة وأنا أحاول التّهرب منهم ومن الماء. أم ربما تلك التي لم تحبني طلبت منهم إبعادي. ولكنني لم أكن أقترب منها ولكن يبدو أنها لم تكن تريدني في الغرفة نفسها معها أيضًا. أو ربما البيت نفسه. كان يجب أن أتودد منها أكثر أو ربما ألا أدخل تلك الغرفة حيث تمضي كل وقتها. أو ربما استبدلوني بكائن آخر مطيع أكثر مني بعد أن أرهقتهم باستيقاظاتي الصباحية ونظراتي المستعطفة. أو شعروا أني تمنيت التواصل أكثر مع كائنات من جنسي عندما ركضت بعيدًا في إحدى الأمسيات خلف أحد أبناء جنسي ولم يجدوني. غضبوا جدًّا حينها ويبدوا أنهم قرروا أن يضعوني حيث ظنوا أني أنتمي.

أظلمت السماء مرات كثيرة. وظهر ذاك القرص الحارق في السماء مرات كثيرة. ولم يأتي أحد من عائلتي. يبدو أن هذا المكان أصبح مكاني الجديد وأصبح لي رائحة مختلفة لم أحبها، واشتقت لرائحة الطعام الشهي، وللكائنات الصغار الذين كانوا يأتون لتمضية وقتهم باللعب معي. ولكن كل هذا بدا بعيدًا جدًّا كحلم جميل، وشعرت بالغباء لأنني تعودت عليه وظننت أنه سيكون نمط حياتي بأكملها. يبدو أنها كانت مرحلة مؤقتة قبل الوصول إلى هنا.

قررت أن أنساها وأن أكون مطيعة وأنفذ ما يحاولون تعليمي هنا كي لا يتخلوا عني أصحاب هذا المكان حيث يوجد على الأقل ماء وطعام ولا يسيؤون معاملتي والأهم أنهم لا يعدونني بأكثر من هذا.

ثم أطلّت.

شممت رائحتها قبل أن أراها تطلّْ. لكني لم أبالي لأني لم أصدق أني أشمها فعلًا. ليست بالضرورة رائحتها هي إذ لا بدَّ أن يكون هناك روائح مشتركة بين هذه الكائنات. ركض ظلٌّ ما باتجاهي لم أتمكن من معرفة صاحبه بسبب نور الشمس الذي وقع على نظري وشوّهه. لم أتحرك إلى أن شعرت بلمسة كنت متعوّدة عليها.  وحضنتني وشدت علي حتى صرت بالكاد أتنفس. ثم مسكت وجهي ونظرت بعيني ويبدو أنها رأت نظراتي اللامبالية لأن عيناها كانتا حزينتان ومليئتان بالمياه.

عرفتها. إنها هي وهذه رائحتها هي. لكني لم أرد أن أظهر لها ذلك. ولم أكن واثقة من أن بإمكاني أن أفرح لرؤيتها. لأني لا أعرف بعد لماذا عادت. هل عادت فقط لتراني أم لتستعيدني. ماذا لو فرحتُ ثم تبيّن أنها ستغادر مجدّدًا من دوني؟ وحتى لو جاءت لتأخذني يجب أن لا أفرح بسرعة أو على الأقل يجب أن لا أريها أني فرحة. يجب أن تشمّ رائحتي لتفهم ماذا فعلت بي وأين ومع من تركتني ولأي مصير.

ادّعيت أني لا أعرفها أو أني لا أبالي بحضورها وعندما رفعتني عن الأرض لأمشي قربها باتجاه مركبتها التي أحضرتني بها، بدأت أشعر بالشفقة على الكلاب من حولي وأنا أتخيل رائحة الطعام الذي ينتظرني في منزلي، وأسرّتي المريحة ورائحتي التي سأستعيدها. حتى أني فرحت بالاستحمام الذي دون شك سيكون بانتظاري ولأول مرة سأكون بانتظاره ولكني أخفيت كل هذا عنها. وقررت الإستمتاع برؤية الماء في عينيها قدر المستطاع. ومشيت قربها ببرود وبطء وجعلتها تظن أني أغادر غصبًا عني مع شخص لم أتعرف عليه بعد. لكني كنت أعلم أن هذا الادعاء لن يطول. أطلّيت برأسي من النافذة لأتركها تفكر بالخطأ الذي ارتكبته معي، وبدأت أفكر بما ينتظرني من هناء وأننا عندما نصل سأدعها تطبع شفاهها عليّ وبدوري ألحسها ثمّ نأكل وننسى كل ما جرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ورقة للحب.. ورقة للموت

"أبناء وأحذية" لمحسن الرملي.. أسئلة المصير الفردي