07-أكتوبر-2015

ساري يغني لكنه يريد المشي أيضًا (ألترا صوت)

يمكن لفئة ذوي الإعاقة في غزة أن تبدع في مجالات محدودة. المجتمع ليس متقدمًا إلى درجة قبولهم تمامًا بعد. قد تُتاح لهذة الفئة الفرص في الإبداع مؤقتًا، لكن الأحلام تبقى أحلامًا. ومع ذالك الحال يعيش غالبية فئة ذوي الإعاقة داخل قطاع غزة. ساري واحد من هؤلاء الذين رفضوا كل هذا. بعد تسع سنوات من إصابته، اختار الراب لأنه أحبه وكان الأقرب لقلبه كطريقة تعبير لا حدود لها. ساري يغني.

رحلة إصابة وأمل ضئيل

ساري إبراهيم ربايعة لديه 25 عامًا. ينتمي لبلدة بئر السبع المحتلة، ويسكن غزة في منطقة الكرامة، يلقبه مغنُّوا الراب في فلسطين بـ"الانفصام". لا يتقيد بأي نوع من الموسيقى. أصيب في عامه السادس عشر، في كانون الثاني/ يناير عام 2006، عندما كان في منزل أحد أقاربه على الحدود الشرقية الفاصلة بين قطاع غزة وأراضي الداخل المحتلة، وتلقى ثلاث طلقات. الأولى إلى جانب القلب وأدت إلى كسر في القفص الصدري، والثانية بالبطن وأدت إلى إزالة كلية بالكامل وجزء من الكلية الأخرى، ليبقى يعيش على جزء كلية فقط. أما الطلقة الثالثة فأدت إلى تكسير فقرتين من العمود الفقري أصابته بالشلل وأقعدته.

وسار ساري منذ عام 2006 لغاية هذا العام 2015 في رحلة علاج طويلة لم يتوصل خلالها لأي نتيجة أو حتى تحسن بسيط. فأرسل أوراقه وتقارير حالته إلى ألمانيا على أمل أن يصل الأطباء فيها لنتيجة إيجابية في شفائه، فردوا عليه، أن النتيجة المتوقعة لشفائه إيجابية، لكن يتطلب منه دفع مبلغ 125 ألف يورو للمستشفى، على أن يشفى بالكامل ويمشي على قدميه من جديد.

يتطلب الذهاب إلى ألمانيا للعلاج دفع مبلغ 125 ألف يورو للمستشفى وهو مبلغ مستحيل

طبعًا هذا مبلغ مستحيل، بالنسبة له، ما دفعه للتقدم بطلب التكفل بالعلاج عن طريق السلطة أو أي منحة خيرية للعلاج من طرفها. على مدار عامين وهو يحاول تقديم الأوراق مع السلطة الفلسطينية في رام الله من دون أية نتيجة. حتى أنه سافر إلى رام الله مرتين للتوصل لأي حل، لكنه لم ينجح في محاولاته.

الغناء طريق للنجاة

بعد إصابته مباشرةً قضى ساري عامًا كاملًا في عزلة. ورغم كل المحاولات، لم يتغير حاله. سمع الراب لأول مرة في منتصف 2007، وتعلم طريقة كتابة كلمات الأغاني، فوجدها كلمات تعبر عن ذات المغني، تخرج بشكل حر بعيدة عن الأسلوب التقليدي، ولكنها قريبة للواقع بطريقة عامية وملموسة. تذكر ساري نفسه قبل الإصابة عندما كان يكتب كلمات أغاني وقصائد حرة، ورجع لها بعد متابعته للراب وبدأ ينظر لنفسه، ويقول إنه يستطيع الكتابة على نفس نمط هذا النوع من الغناء لأنه سيعبر عن شخصيته وما يعانيه، قال ساري: "لجأت لصديق خلالها كان يملك معدات تسجيل ومونتاج للصوت، وسجلت أغنية وتبعها مجموعة من الأغاني، وكانت عبارة عن تدريب لي، أخطأت لكني أتقنتها، وأشعر بالراحة الكبيرة لأنني فرغت كل شيء بداخلي".

إقرأ/ي أيضًا: عائشة الحدادة.. حياة بالحديد والنار

يعيش ساري بالقرب من الميكروفون ومقعده. يعيش على المسكنات، ويعجز الأطباء في غزة عن تحسين حالته، بسبب قلة الإمكانات، وعند زيارته للمستشفى يتلقى بعض المسكنات المؤقتة. وما أن ينتهي مفعولها حتى يبدأ بالشعور بالآلام الداخلية، فيعود لتناولها ليرجع للنور مرة أخرى ويغني ويكتب، في استوديو صديقه المنزلي الذي يحتوي على إمكانات بسيطة في معدات الصوت.

الانتماء إلى المجتمع

سجل ساري عددًا من الأغاني التي تحكي واقع تجربته ونظرته للقضايا الاجتماعية

سجل ساري عددًا من الأغاني التي تحكي واقع تجربته ونظرته للقضايا الاجتماعية، فكانت أغنية "طرح سياسة" فريدة من نوعها في غزة، فهي تتحدث عن انتهاك الحريات الداخلية من قبل الحكومة، ويتحدث عن المواطن المقموع.

أما أغنية "سيمفونية وطن" فيتحدث فيها عن الوضع الفلسطيني وانقسام الحكومات في غزة والضفة الغربية، وهم يواجهون جميعهم الكيان الصهيوني، الذي لا يعترف به كدولة لأنه قائم على الأراضي المحتلة عام 1948، كما تحدث عن دور الحكومات التي تفاوض على مطالب لم ينفذها الكيان الصهيوني، وواقع الأطفال، خلال بعض الجمل التي تعبر عن انتظارهم لبناء منازلهم في ظل استمرار المفاوضات.

وتبعتها أغنية "أنا تايه"، التي عبرت عن شخصية ساري.  بدأها بتساؤل، لا يعرف لمن ينتمي، وما هي مكانته في المجتمع؟ يقول ساري: أنا أصبت، واختار الله لي قدري أن أقعد على المقعد المتحرك، ودرست الجامعة تخصص تصميم ومونتاج، لكن المجتمع حرمني الكثير من الفرص. وإلى جانب الغناء والتأليف الموسيقي، عمل ساري مصممًا مع بعض المؤسسات، وكان يصمم "بروشورات" على عدد من برامج التصميم بطريقة كلاسيكية مميزة مكنته من العمل في هذا المجال، رغم أنه عمل محدود، لكنه لم يكن طموح ساري بأي حال، فهو يحمل عبارة " أريد أن أتكلم أنا لا أن أسمع فقط".

ورغم هذه المعاناة لا يزال ساري يجدد في كتاباته، ويوميًا يجول منتزهات غزة للجلوس مع أصدقائه، ويناقشهم قضاياهم، لكنه يتمنى أن يعالج ليعيش حياته كأي مواطن يحمل قضية ويود لو يحرك قدميه إلى الأمام.

إقرأ/ي أيضًا: أندرغراوند ما بعد الربيع العربي