سقط "تابو" السلاح من محرّمات النقاش اللبناني، وما كان يُقال بحذر منذ مطلع التسعينات، على أثر انتهاء الحرب الأهلية، أصبح في صلب خطاب القسم لرئيس الجمهورية جوزاف عون والبيان الوزاري لحكومة نواف سلام. فالمرحلة الجديدة عنوانها الأساسي حصر السلاح بيد الدولة، مهما تعدّدت عناوينه.
جاء اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، والتزام لبنان الرسمي عبر الجيش اللبناني، بتطبيق القرار الأممي 1701 بكامل مندرجاته، ليوفّر الغطاء الدولي غير المسبوق لهذه المهمة التي كانت شبه مستحيلة في السابق.
ورغم النقاش القائم حول نطاق التطبيق، أكان محصورًا في جنوب الليطاني أم في شماله أيضًا، إلا أن الخطاب الرسمي للدولة اللبنانية بات واضحًا، بأن لا سلاح غير سلاح الدولة بعد اليوم على امتداد الجغرافيا اللبنانية.
عاد النقاش حول السلاح الفلسطيني إلى الواجهة من جديد، عشية زيارة مرتقبة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت
المسار طويل بطبيعة الحال، ولن يصبح لبنان خاليًا من كل المربّعات الأمنية بين ليلة وضحاها، إلا أن خطوات ملموسة بدأت، وهنا ينسحب النقاش على السلاح الفلسطيني في لبنان ومصيره.
مراكز الجبهة الشعبية – القيادة العامة
بعد مرور حوالى 3 عقود على انتهاء الحرب، وتسليم الميليشيات سلاحها للدولة وانخراطها في صفوف الجيش، باستثناء حزب الله كمقاومة للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، حافظت بعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من النظام السوري السابق على مواقع عسكرية لها في أكثر من منطقة لبنانية.
وفي نقطة تحوّل كبيرة في مقاربة لبنان لهذا الملف، سيطر الجيش على كل المراكز الفلسطينية خارج المخيمات بعد اتفاق وقف إطلاق النار وبعد سقوط بشار الأسد، في الناعمة في جبل لبنان وقوسايا والسطان يعقوب في البقاع، وهي مراكز تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة. وبهذه الخطوة طويت صفحة أمنية قلقة عجز لبنان عن حلّها طوال السنوات الماضية، ورغم الإجماع الوطني في طاولة الحوار التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري في العام 2006، واتفق خلاله على سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وضبطه في داخلها.
محمود عباس إلى بيروت
عاد النقاش حول السلاح الفلسطيني إلى الواجهة من جديد، عشية زيارة مرتقبة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى بيروت، والتي اتفق عليها بينه وبين الرئيس عون على هامش القمة العربية الأخيرة في القاهرة. وكان موقف عباس واضحًا، "أننا نؤيد كل الاجراءات التي تتخذها الحكومة اللبنانية لتعزيز سيادة الدولة على كامل أراضيها وتطبيق القرار 1701".
وفيما حمل كلام عباس رسالة واضحة حول السيادة اللبنانية، والتي تنسحب بطبيعة الحال على السلاح الفلسطيني، كان وفدًا إستخباريًا فلسطينيًا يزور لبنان، ويجري سلسلة لقاءات مع المسؤولين اللبنانيين، اطلع خلالها على التصوّر اللبناني لمقاربة الملف الفلسطيني، والآلية التي يمكن مناقشتها والعمل عليها.
لا خطة جاهزة
تؤكد كل المعطيات أن لا رؤية واضحة لدى الجانب الفلسطيني، الذي لم يطرح آلية عمل، إنما اكتفى بالنقاش والإطلاع على الأفكار اللبنانية. وكذلك من الجانب اللبناني، لا خطة جاهزة حتى الساعة لملف السلاح داخل المخيمات، وإن كان هناك ورشة عمل بدأت بها لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني في السابق، وتحتاج إلى المزيد من الدرس والبحث، وربما تشكّل زيارة عباس إلى بيروت مناسبة لإعطاء الضوء الأخضر للانتقال بالموضوع من النظري إلى العملي.
في كل مخيم مخفر
يذكّر وزير الداخلية السابق مروان شربل، في حديث لـ"الترا صوت"، بزيارة محمود عباس إلى لبنان في العام 2012، قائلًا: "كنت في الحكومة واجتمعنا به في السراي الحكومي، وطلبنا منه حينها إيجاد حل لموضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات"، وأضاف: "شدد عباس على تطبيق القانون اللبناني على جميع المقيمين على الأراضي اللبنانية، ووعد بسحب السلاح بطريقة قانونية، ولكن حتى اليوم لم يحصل أي شيء على هذا الصعيد"، مستطردًا: "نتمنى تذكير عباس بوعده، وإيجاد حل لكل السلاح الموجود خارج إطار الشرعية اللبنانية، عبر التفاوض واللقاءات مع الجميع".
ولكن هل لبنان قادر على الإمساك بأمن المخيمات في حال نُزع السلاح منها بالكامل؟
يجيب شربل: "طريقة سحب السلاح الفلسطيني تُدرَس، ولكن من المفيد التذكير بأنه في السابق، قبل الحرب اللبنانية، كان هناك مخفر لقوى الأمن الداخلي اللبناني في كل مخيم، وكانت كل الملفات والإشكالات تعالَج بالاتفاق والتنسيق مع الجيش اللبناني والمخابرات".
ويشدد شربل على "وجوب بحث موضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات بشكل جدي هذه المرة. ففي النهاية لا دور لسلاح المخيمات في لبنان، له دور في غزة وليس في لبنان، والسلاح الموجود هو للتقاتل بين الفلسطينيين، ونذكر الحادثة الأخيرة في نهر البارد مع الجيش اللبناني، ونتمنى أن لا تتكرر. فالظروف تغيّرت اليوم، لكن ما نراه من خلال الأحداث وآخرها في مخيم عين الحلوة، كانت بين الفلسطينيين للأسف".
"أما اذا كان السلاح لحماية المخيمات فهناك طرق كثيرة يمكن من خلالها حمايتها بالتنسيق مع الدولة اللبنانية"، يختم شربل.
أمن المخيمات
شهدت المخيمات الفلسطينية في لبنان جولات كثيرة من الإشتباكات، والإقتتال بين الفصائل الفلسطينية من أجل الإمساك بالقرار الأمني فيها. وسط انتشار عشرات الفصائل المسلّحة غير المنضبطة، التي كانت مرتبطة في العديد من المحطات بقوى خارجية، لا سيما بعد اندلاع الثورة السورية، ولاحقًا ظهور الجماعات المتطرفة.
إلا أن محاولات عدة حصلت في المقابل، من قِبل الفصائل الفلسطينية، من أجل ضبط المخيمات، وكانت القوة الأمنية المشتركة التي تشكلت في المخيمات نموذجًا لهذه المحاولات، بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية، حركة فتح، حركة حماس، الجهاد الإسلامي وغيرها من الفصائل.
وبالتالي أي إرادة فلسطينية قد يُعبَّر عنها بشكل رسمي للبحث بموضوع السلاح، خلال زيارة محمود عباس إلى لبنان، ستحتاج إلى توافق فلسطيني داخلي أولًا، وتحديدًا حركة حماس.
إيجابية حماس
يوضح مصدر في حركة حماس في لبنان، في اتصال مع "الترا صوت"، أن "ملف السلاح الفلسطيني في لبنان ينقسم إلى جزءين، السلاح خارج المخيمات وهي قواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة التي كانت موجودة، وهذه جرى تسليمها بكل حب ورضى مع الدولة اللبنانية عبر الجيش اللبناني، أكان في الناعمة في جبل لبنان أو قوسايا والسلطان يعقوب وأماكن أخرى في البقاع. فهذا الملف انتهى وربما كان هذا السلاح هو الملحّ بالنسبة للبنان على اعتبار أنه سلاح خارج إطار الدولة، وهو السلاح الثقيل أو المتوسط".
ويضيف "أما السلاح داخل المخيمات، لم يُبحَث معنا بشكل واسع حتى الآن، وكل ما نسمعه هو إثارة إعلامية، لكنه لم يُفتح بشكل جدي معنا من قبل الدولة اللبنانية".
ويتساءل المصدر في حركة حماس: "هل يشكّل السلاح داخل المخيمات أزمة أو يثير قلق المناطق المجاورة؟ السلاح منتشر في مختلف المناطق اللبنانية، وقد شهدنا في طرابلس، على سبيل المثال، الإشكالات الأمنية المتكررة، إلى جانب التفلت الأمني في البقاع وغيرها. فهل المشكلة الحقيقية تكمن في سلاح المخيمات؟".
وحول الموقف من زيارة عباس إلى لبنان، يعلّق المصدر: "إذا كان طابع الزيارة هو السلاح وتسليم السلاح وضبطه، فهذا الأمر لا علم لنا فيه بعد. أمّا إذا كان السلاح داخل المخيمات يحلّ المشكلة في لبنان ويعيد الإستقرار الى لبنان، فكل الفصائل الفلسطينية متفقة على هذا الأمر، واذا كان ذلك يرضي الجانب اللبناني فلا مشكلة لدى كل الفصائل وليس فقط حماس، لجهة ضبط السلاح وإعادة ترتيبه في داخل المخيمات. وقد جرت لقاءات عدة بين الفصائل الفلسطينية، وكان الكلام واضح لجهة حسن الجوار وأمن واستقرار جوار المخيمات".
فهل حماس مستعدة إذًا لتسليم السلاح؟ يقول المصدر: "من السابق لأوانه الحديث عما سيحصل في حال تم النقاش بالسلاح، ولكن كل الفصائل منفتحة على الجوار اللبناني والدولة اللبنانية، وهي مع استقرار وأمن لبنان".
بؤس اجتماعي
البحث في ملف المخيمات لا يمكن أن يكون مجتزءًا ويقتصر فقط على الجانب الأمني، فالأوضاع المعيشية والاقتصادية التي يعيشها اللاجئون تحتّم على الدولة اللبنانية والسلطة الفلسطينية، كما الدول العربية والجهات المانحة وفي مقدمها "الاونروا"، نقل هذه المخيمات من حال البؤس الاجتماعي إلى الحدّ الأدنى من مقومات الحياة وتأمين أبسط الحقوق للاجئين.
فأي استراتيجية لنزع السلاح أو ضبطه ستبقى مجحفة وناقصة إذا لم تترافق مع تحسين أوضاع الفلسطينيين، الممنوعين من ممارسة الكثير من المهن والأعمال، كما يقاسون حرماناً على مستوى خدمات التعليم والصحة، التي تزوّدهم بها وكالة "الاونروا" بالقطارة.
في المقابل، هواجس كثيرة المطلوب من الفلسطيني طمأنة اللبنانيين حيالها، بدءًا من ملفات المطلوبين للقضاء اللبناني أو المتهمين بالاعتداء على الجيش اللبناني.
البحث في ملف المخيمات لا يمكن أن يكون مجتزءًا ويقتصر فقط على الجانب الأمني
بين التوطين وحق العودة
ينتشر في لبنان 12 مخيمًا فلسطينيًا، يعيش فيها أكثر من 250 ألف فلسطيني، فيما يعيش حوالى 100 ألف فلسطيني في مخيم عين الحلوة وحده. ولطالما كان الوجود الفلسطيني هاجسًا كبيرًا لشرائح لبنانية واسعة خوفًا من" توطينهم في لبنان"، والخطاب اللبناني التقليدي يقوم على هذا القلق المستمر منذ اتفاق القاهرة في العام 1969، التي أعطى منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك حرية العمل الفدائي في جنوب لبنان.
في المقابل، يحرص الفلسطينيون على تثبيت حقهم بالعودة في كل مناسبة، وإن كانت المخيمات تحوّلت إلى شبه وطن بديل بعد مرور 77 عامًا على النكبة وضياع أرض فلسطين، لتأتي الحرب الأخيرة المدمّرة في غزة، ومشاريع التهجير الجديدة لتعيد مشاهد نكبة 1948 إلى الأذهان، وتنبئ بمأساة جديدة ما زال فلسطينيو الشتات يعيشون مرارتها حتى اليوم، في مخيمات لبنان وحول أقطار العالم.