17-ديسمبر-2017

زيارة ماكرون للجزائر أعادت القضايا العالقة بين البلدين للواجهة (رياض كرامدي/ أ.ف.ب)

خلال أوج الحملة الانتخابية لرئاسة فرنسا في مستهل عام 2017 الجاري، قال المرشح الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل فوزه بالرئاسة، في حوار له مع قناة الشروق نيوز الجزائرية عندما زار الجزائر، "إن الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة، جريمة ضد الإنسانية، إنه وحشية حقيقية وهو جزء من هذا الماضي الذي يجب أن نواجهه بتقديم الاعتذار لمن ارتكبنا بحقهم هذه الممارسات"، وهو التصريح الذي أثار عليه عاصفة من الانتقادات اللاذعة في فرنسا آنذاك، خاصة من قبل اليمين المتطرف ضد ماكرون.

خلال الحملة الإنتخابية وصف إيمانويل ماكرون الاستعمار الفرنسي للجزائر بـ"الجريمة الوحشية ضد الإنسانية"

في نفس الوقت رأى كثير من الجزائريين أملًا في قدرة هذا المرشح الأوفر حظًا آنذاك -قبل أن يُصبح رئيسًا- على اتخاذ قرارات شجاعة، تليق بالمسؤولية التاريخية التي تتحملها فرنسا من جرائم الفترة الاستعمارية بالجزائر، منذ عام 1830 إلى سنة الاستقلال 1962.

اقرأ/ي أيضًا: تصريحات ماكرون تفتح جرح الماضي بين فرنسا والجزائر

وبعد قرابة سبعة أشهر من زيارته تلك، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في هذا الشهر، زيارة رسمية للجزائر هي الأولى من نوعها منذ انتخابه رئيسًا للجمهورية الفرنسية، حيث اختلفت ردود الجزائريين حولها، ففيما اعتبرها البعض مبادرة حسنة لتذويب جبل الجليد بين البلدين، وجد فيها آخرون استمرارًا للغطرسة الفرنسية على مستعمراتها القديمة.

زيارة مثيرة للجدل

مباشرة بعدما نزل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من طائرته، في مطار هواري بومدين، وضع إكليلًا من الزهور على النصب التذكاري للشهيد، والتقى حشودًا من المواطنين الجزائريين، من الرجال والنساء والأطفال الذين استقبلوه بكثير من الترحيب والتحايا الحارة، قبل أن يعقد مؤتمرًا صحافيًا بالعاصمة الجزائر.

قال إيمانويل ماكرون في بيانه الصحفي ذاك، إنه جاء "بصفته صديقًا وشريكًا في العمل مع الجزائر"، لكنه رفض الإجابة بشكل مباشر وواضح عن أسئلة مرتبطة بالاستعمار وُجّهت له من قبل أحد الصحافيين في المؤتمر، قائلًا: "نريد طيّ صفحة الماضي، ونبدأ قصة جديدة مع الجزائر". تلك زيارة وصفها قصر الإليزيه بأنها "ذات بعد قوي تجاه الذاكرة التي تجمع فرنسا مع الجزائر"، حيث تضمنت مجموعة من الخطوات النوعية.

ولعل أبرز تلك الخطوات تمثلت في إعلان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قرار باريس البدء في تنفيذ إجراءات إعادة رفات قادة الثورة الشعبية الجزائرية إبان الاستعمار الفرنسي للبلاد. وكان البرلمان الفرنسي قد طالب مسبقًا السلطات الرسمية الفرنسية بـ"اتخاذ خطوة جريئة" وإعادة رفات وجماجم المقاومين الجزائريين، المعروضة في متحف الإنسان بباريس، وذلك بعد تناولها من طرف وسائل إعلام فرنسية التي كشفت عن وجود 36 جمجمة تعود لقادة المقاومة الجزائرية في نهاية القرن الـ19، قتلت فرنسا أصحابها واحتفظت برؤوسهم وأرسلتها إلى باريس.

قررت فرنسا أخيرًا إعادة جماجم الثوار الجزائريين بعد أن تحفظت عليها لعقود (بوابة الشروق)
قررت فرنسا أخيرًا إعادة جماجم الثوار الجزائريين بعد أن تحفظت عليها لعقود (بوابة الشروق)

كما أمر ماكرون برفع السرية عن بعض المحفوظات الفرنسية في عدد من القضايا الجزائرية، حيث لا تزال فرنسا تحتجز أكثر من 90% من أرشيف الجزائر، الذي يعود إلى تاريخ الحقبة الاستعمارية (1830- 1962)، بحسب المسؤولين الجزائريين. وكانت القوات الاستعمارية قد نقلت إلى فرنسا خلال مرحلة الاحتلال مئات الآلاف من الوثائق التي تؤرخ لتلك الفترة بالجزائر.

في زيارته الأخيرة للجزائر أعلن ماكرون بدء إجراءات إعادة رفات وجماجم الثوار الجزائريين التي كانت قد تحفظت عليها فرنسا لعقود طويلة

من جهة أخرى، ماكرون بزيادة الاستثمارات الفرنسية في الجزائر وإعادة تنشيط التبادلات الاقتصادية، بعد اتهامات لفرنسا بتفضيل المغرب في هذا الصدد. وقد تركت فرنسا مكانتها باعتبارها المورد الرئيسي للجزائر، للصين التي باتت أول مستثمر أجنبي في البلاد. ومع ذلك تبقى فرنسا أول مستثمر في الجزائر خارج قطاع المحروقات، وأول أجنبي يوظف الجزائريين، إذ "تتواجد 450 مؤسسة فرنسية تخلق 40 ألف منصب عمل مباشر، و100 ألف منصب آخر غير مباشر"، طبقًا لما صرح به السفير الفرنسي.

قضايا عالقة بين فرنسا والجزائر

استعمرت فرنسا الجزائر لمدة تصل إلى 130 سنة، وخلال فترة الاحتلال، شهدت الجزائر مجموعة من المذابح ارتكبها الجنود الفرنسيون في حق عشرات الآلاف المدنيين الجزائريين، ضمنها مجزرة قبيلة العوفية في الحراش التي نفذها العقيد ماكسيميليان جوزيف شوينبيرغ، ومجزرة "20 أوت (آب/أغسطس) 1955"، كما حدثت مجزرة عرش بن ناصر قرب مدينة شرشال ومذبحة الظهرة قرب الشلف وغيرها، وحتى الساعة لم تقدم الدولة الفرنسية اعترافًا رسميًا بمسؤوليتها في هذه المجازر بالجزائر، رغم التصريحات المنددة بها من بعض مسؤوليها كالرئيس إيمانويل ماكرون.

اقرأ/ي أيضًا: استعادة رفات ثوار الجزائر.. التأجيل مستمر!

أيضًا من المسائل التاريخية العالقة بين الجزائر وفرنسا، القضية المعروفة بالتفجيرات النووية، حيث حوّلت فرنسا صحراء الجزائر إلى حقل تجارب لقنابلها النووية، حيث اندلع سباق تسلح نووي محموم مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ديغول رئيس فرنسا آنذاك يطمح لدخول بلاده إلى المعسكر الثلاثي النووي، أمريكا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي، فكان يحضر لمجموعة من التجارب الذرية في الجزائر وبولونيزيا. إلا أن تلك التجارب النووية التي قامت بها فرنسا بصحراء الجزائر خلفت وراءها عواقب وخيمة على ساكنة المنطقة هناك ونشاطها البيئي على مدار عقود نتيجة الإشعاعات.

وقد اعترفت فرنسا لأول مرة بجريمة التجارب النووية بمنطقة رقان سنة 2014، وأقرت قانونًا لتعويض ضحايا الإشعاعات النووية، يشترط على المصابين المرضى تقديم أدلة كافية تثبت تسبب مخلفاتها النووية بالمرض، إلا أن الجزائريين لا يجدون ذلك كافيًا.

في المقابل، تطالب فرنسا بين الفينة والأخرى السلطات الجزائرية بالاعتراف بقضية ما يعرف بـ"الأقدام السوداء"، وهم المستوطنون المدنيون الأوروبيون، الذين ولدوا أو عاشوا في الجزائر لأجيال متتالية خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر الممتدة في الفترة ما بين 1830 إلى 1962، وكان معظمهم من الفرنسيين واليهود، وقلة من الإيطاليين والإسبان والمالطييين، ويقدر عددهم بالمليون ونصف.

خلال فترة الاستعمار، أجرت فرنسا تجارب لقنابل نووية في صحراء الجزائر، خلفت وراءها عواقب وخيمة يمتد أثرها لوقتنا الحالي

وتتهم مجموعات "الأقدام السوداء"، الممثلة في هيئة "الاتحاد من أجل الدفاع عن حقوق الفرنسيين المطرودين من الجزائر ومن بلدان أخرى"، المقاومة الجزائرية وسلطاتها الحكومية بتهجيرهم قسرًا مما يعتبرونها بلدهم الأم الجزائر، كما يتهمونهم بالاستيلاء على أملاكهم وأعمالهم ومنازلهم، ولا يزالون يطالبون إلى اليوم بـ"حق العودة واسترجاع الأملاك".

 

اقرأ/ي أيضًا:

تجارب فرنسا النووية.. جرح الجزائر الغائر

ماكرون والشرق الأوسط.. ماذا ترَك رجل الوسط لأهل اليمين؟