17-ديسمبر-2018

كانت زيارة البشير بمثابة محاولة لتطبيع عربي في العلاقة مع الأسد (تويتر)

دبت ليلة الأحد الماضي حركة غير طبيعية في مطار الخرطوم، إذ هيأ ضباط المراسم المكان بصورة مفاجئة لاستقبال الرئيس السوداني عمر البشير العائد لتوه من زيارة سرية خارجية لم يفصح عن مكانها وأسبابها، وحتى أجهزة الإعلام التي تم حشدها هى الأخرى لفتها الحيرة بالكامل، بينما تكهنت الأوساط السياسية بالإعلان عن وديعة مليارية لإنقاذ الاقتصاد السوداني المترنح بشدة، على أمل أن تخفف ولو قليلًا وطأة المعاناة الماثلة بضراوة في صفوف مستهلكي الخبز والوقود.

يلعب البشير كأحد رؤوس الحربة المتشعبة للأجندة المتخبطة إماراتيًا وسعوديًا تواطؤًا مع الاستبداد وإسرائيل، من صنعاء إلى دمشق وما بعدهما

في تمام الساعة التاسعة ليلًا كانت الطائرة الروسية "توبوليف" تحلق في سماء الخرطوم، على متنها الرئيس البشير، ولعل أكثر ما أثار فضول الصحفيين كان منعهم من التقاط الصور داخل المطار، فاختلطت الآمال بالمخاوف، وتفجرت الأسئلة بخصوص ما يجري في الخفاء؟

إزاحة الغموض بالصور

كان إعلام النظام السوري سباقًا في إزاحة الغموض عن زيارة البشير، بحفاوة زائدة، ربما لتحقيق انتصار معنوي فوق ركام بلد تعرض للدمار بالكامل، فبدأت الصور التي جمعت البشير والأسد تنهمر دفعة واحدة بشكل لافت ومثير، وأصبح البشير أول رئيس عربي يهبط في دمشق منذ انطلاق الثورة ويفك عزلة بشار الأسد. هي الخطوة التي أثارت العديد من الأسئلة عن داوفعها ودلالاتها السياسية، قبل أن تسفر تصريحات البشير عن موقف سوداني مختلف عن الموقف العربي إجمالًا، قائلًا إن "سوريا دولة مواجهة وإضعافها إضعاف للقضايا العربية".

اقرأ/ي أيضًا: "حب من طرف واحد".. لماذا لا يزور ملوك السعودية السودان؟

 تتناقض جملة تصريحات البشير حول مصير الأسد مع موقفه السابق، إذ قال سالفًا  في حوار أجرته معه صحيفة عكاظ السعودية قبل عامين مثلًا، إن "بشار الأسد لن يرحل إلا بالقوة، فمن نفسه لن يرحل، لأنه رئيس طائفة أقلية".

مقاربة جديدة للوضع العربي

في مدة لم تزد عن 40 ثانية فقط، صرح وزير الدولة بالخارجية أسامة فيصل، الذي رافق البشير إلى دمشق، بأن الزيارة تمثل "مقاربة جديدة للوضع العربي"، أما على المستوى الداخلي، فكانت زيارة البشير بمثابة مفاجأة، بل كانت بالأحرى صادمة لكثير من السودانيين الذين ينظرون إلى بشار الأسد باعتباره مجرم حرب، ليس ثمة خيار سوى مغادرته للسلطة كحل للأزمة، بجانب الموقف العربي المتماثل إزاء الأزمة السورية. كما أنه جاء متناقضًا مع قطع العلاقات نهائيًا بين الخرطوم وطهران بعد الانضمام للتحالف الذي تقوده السعودية في الحرب اليمن.

من الملاحظات الجديرة بالالتقاط أن أيًا من وزير الدفاع ولا حتى مدير المخابرات السوداني، قد رافق البشير في زيارة دمشق، وهذا وفقًا لبعض المراقبين لون سياسي كامل أسبغ على الزيارة، والتي سبقتها زيارة أخرى سرية إلى روسيا خلال نفس الأسبوع، كما رُشح في وسائل الإعلام المحلية. وبالتالي فإن الموقف السوداني الجديد أقرب للانتقال إلى محور روسي، ربما يترتب عليه إعادة العلاقة مع طهران وسحب الجيش السوداني من اليمن، كما يتردد في الأوساط السياسية والبرلمانية.

وقد لاقت الزيارة ردود فعل وغضب واسعين في السودان. على جدار صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كتب الصحفي والمحلل السياسي عبد الباقي الظافر مثلًا، تدوينة بخصوص خيبة أمله في زيارة البشير إلى سوريا، وشكل الإعلان عنها، قائلًا: "ارتفعت الآمال بعد إعلان الزيارة السرية، وتمت دعوة الصحفيين لمؤتمر صحفي فظن الناس أن الفرج محمول في جوف طائرة الرئيس، لكننا اكتشفنا أن البشير ذهب لفك العزلة عن رئيس أكثر عزلة منه" قاصدًا الأسد، وأضاف الظافر أن "عدم الإحساس بمعاناة الناس يعني إصابة الحكومة بمتلازمة الخدر السياسي" على حد تعبيره.

وذهبت كثير من التحليلات وردود الأفعال الداخلية إلى التذكير بالمواقف السودانية حيال الملف السوري، والدعوة لحله بصورة سلمية، بجانب المخاوف الرسمية من انتقال عدوى الربيع العربي للخرطوم في حال سقوط نظام بشار الأسد، وهي المخاوف التي كانت حاضرة بكثافة في تعابير الرئيس البشير يوم أمس، التي تنطوي بدورها على توافق آراء بعض الزعماء العرب، الذين أدركوا باكرًا ربما أن انهيار سلطة الأسد تهدد بانهيار عروشهم، ولو بصورة معنوية، فكانوا مع الأسد وضده في نفس الوقت.

روسيا في منتصف اللعبة السياسية

هل كانت زيارة البشير بمثابة المقدمة لرؤساء عرب آخرين سوف يهبطون تباعًا في دمشق؟ يجيب أسامة عبد الماجد رئيس تحرير صحيفة "آخر لحظة" على هذا السؤال معتبرًا أن السودان ظل فاعلًا في الملف السوري قبل اشتعاله، ولذلك زار البشير سوريا أمس للعب دور مهم وحيوي، مضيفًا أن "الهدف من الزيارة الأخيرة بناء تحالف استراتيجي جديد في المنطقة تقف عليه روسيا"، معتبرًا أن التحالف سيغير قواعد اللعب في المنطقة، ولن يكون خصمًا لأحد، وهو يدعم في المقابل تشكل موقف جديد يدعو البرلمان العربي وأعضاء جامعة الدول العربية إلى إعادة تفعيل مقعد النظام السوري.

اقرأ/ي أيضًا: طعن دستوري ضد البشير.. حرب اليمن مرفوضة شعبيًا في السودان

ولعل تصريحات رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب السوري عمار الأسد، بشأن عودة فتح سفارة الإمارات في دمشق، تبين هذه المساعي، فضلًا عمّا كشفه موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في مقال عن مساع إماراتية تقوم بها عبر "قناة سرية"، للتوصل إلى مصالحة سياسية بين السعودية والنظام السوري، وذلك عقب تحسن علاقة الأخير مع أبوظبي.

على المستوى الداخلي، فكانت زيارة البشير بمثابة مفاجأة، أو بالأحرى صادمة لكثير من السودانيين الذين ينظرون إلى بشار الأسد باعتباره مجرم حرب

الأسد.. خيار ما بعد إسرائيل

جاءت زيارة الرئيس السوداني إلى دمشق ولقاؤه ببشار الأسد، بعد تسريبات كانت قد كشفت أن هناك نية عند رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للقاء بالبشير. وهو التناقض الذي لا ينفك يسيّر السياسات الخارجية السودانية، من ناحية الرغبة في مغازلة أمريكا وكسب ودها، عن طريق تل أبيب، والشعور بالخيبة من عدم إنجاز الوعود الأمريكية، والميل باتجاه روسيا، الذي كانت زيارة الأسد دليلًا عليه. بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه البشير كأحد رؤوس الحربة المتشعبة للأجندة المتخبطة إماراتيًا وسعوديًا تواطؤًا مع الاستبداد وإسرائيل، من صنعاء إلى دمشق وما بعدهما.