17-يناير-2017

زياد خدّاش (1964)

مثلما أخطأ بطل النصّ الأوّل من الكتاب القصصي "أسباب رائعة للبكاء" (دار الأهلية، عمان 2016) للفلسطيني زياد خدّاش (1964)، في الوصول إلى بيته للمرّة الأولى، سيخطئ قارئ هذا الكتاب إن هو حاول أن يضعه تحت تصنيف قصصي معيّن.

ذلك أن هذه التجربة التي تعدّ العاشرة في رصيد صاحب "خطأ النادل"، انطلقت من اليقين/الأرض، وانتهت إلى الحيرة، انسجامًا مع حالة المكان/الإنسان الفلسطيني الذي يعرف منطلقه، لكنه لا يعرف أفقه، في ظلّ محتلّ زوّر الحقائق جميعها ليثبت "جدارته" بذاكرة المكان.

القصّة القصيرة في النهاية، ليست سوى قطعة من الحياة التي نعيش

مع هذه الحيرة الشاملة، لم يبقَ أمام شخوص المجموعة إلا بوصلة واحدة، هي رائحة الأرض، يستدلّون بها على محطّة الوصول/البيت. "كنتُ أصل إلى البيت بسهولة، حسبي أن أدع أنفي يقودني، فرائحة شجرة الليمون الكبيرة، التي يتكئ نصف أغصانها على كتف نافذتي، وتصل عنق مكتبتي، تمدّ رائحتها من أجلي حتى دوّار المنارة، وكثيرًا ما رأيت أنني أصعد درج هذه الرائحة الوفية غير المرئي، متجهًا إلى بيتي، مكلّلًا بمجد غامض لا أعرف سرَّه".

اقرأ/ي أيضًا: صلاح باديس.. أخيرًا للجزائر العاصمة شعرها

يعترف الرّاوي في قصّة "الطيون والجنود وأنا"، هنا على القارئ غير الفلسطيني أن ينتبه إلى أن كلمة "الجنود" تحيل على الإسرائيليين، والذين يحضرون في مفاصلَ كثيرةٍ شبيهين بالأشواك في الحلوق، بأن في كل قصصه تقريبًا مفاجآتٍ ساذجةً ودهشاتٍ وتحوّلاتٍ غيرَ مبرّرة، تشبه تمامًا ما يحدث في الحياة، وهو الخيار الجمالي الذي انحازت إليه الذات الكاتبة عبر واحد وثلاثين نصًّا، لتقول لنا إن القصّة القصيرة في النهاية، ليست سوى قطعة من الحياة التي نعيش، لا تخضع للمنطق بالضّرورة، بل لعفوية القاموس والحواس، وهما يحتكّان بمفردات الوجود.

لقد قدّم خدّاش بهذا الخيار ضربتين سرديتين دفعة واحدة: التقط المفردات البسيطة في معيشه، بما هي معايشات وأحاسيسُ ومواقفُ وردودُ أفعال، وصاغها وفق أصول الكتابة والفن، لتصير نصوصًا تتعالى على العادي والمستهلك والمبتذل والسّاذج والعابر.

إن هذا الخيار السّردي دفع بالذات الكاتبة إلى خيار لغوي تكفّل في النصوص كلّها بدورين حاسمين، هما تصوير المشاهد الخارجية عبر الاستثمار في التقنيات السينمائية المختلفة، خاصّة تلك التي يلجأ إليها الفيلم القصير، حتى كأنك تشاهد لا تقرأ، واستكناه الحالات النفسية في الوقت نفسه، من خلال محاولة الوصول إلى اللحظات العميقة في النفس البشرية، حتى أنك تجد نفسك عفويًا تتعاطف أو تغضب أو تحزن أو تنتشي، وربّما تتمثّل الشخصية التي تقرأ عنها.

وانسجامًا مع هذه التقنية، كان من الطبيعي أن تكون النصوص قصيرة، ذلك أنها تخلّصت من الزوائد اللغوية والوصفية، ولم يبقَ منها إلا ما يجب أن يبقى، الوجوب هنا ذو دواعٍ فنية وجمالية، وهي حالة مؤطرة بوعي عميق لدى الذات الكاتبة، بحيث لا ينتبه القارئ إلى قصر النص، لأنه يجد نفسه متورّطًا عفويًا في إكماله، ذلك أن القاصّ الذي لا يدفع المتلقي إلى أن يتوقف وقتًا معيّنًا بين القصة والقصة، جدير بأن يُسمّى فاشلًا.

يعتقد أصحاب بعض التجارب الأدبية أن الانتماء إلى قضية عادلة، يشفع لهم في ميزان الإبداع

في القصّة التي حملت المجموعة عنوانها "أسباب رائعة للبكاء"، وقد تمنّيت لو أن الكاتب أطلق عنوانًا خاصًّا بالتجربة وحدها، واشتغل أكثر على بعض العناوين الأخرى، ترغب صديقتان في أن تبكيا حتى تتطهّرا من الغبار المتراكم داخلهما، فاتفقتا على خلق أسباب لذلك. تجلسان في الشرفة وينشأ بينهما هذا الحوار.

- هل ترين ذلك الرجل الذي يمشي ببطء كأنه مريض؟

- نعم، نعم، أراه.

- هو أبي الذي مات قبل عشرين عامًا، كنت في سنتي الأولى حينها، منذ تلك اللحظة وأنا بلا أب، وانفجرت ببكاء مريح.

- وهل ترين ذلك الشاب الوسيم الذي يشتري علبة سجائر من البقالة؟

- نعم، نعم، أراه.

- هو ابني الذي سيموت في الحرب القادمة. وانفجرت ببكاء مريح.

استمرّت البنتان في اختراع أسباب البكاء، ودون توقف وبسخاء غريب، استمرّت المدينة في مدّهما بالأسباب. نجد أسبابًا أخرى للبكاء في قصّة "الخروج من البيت"، الوطن في الحقيقة. "بكيت على كلّ سنوات حياتي الأربعين، على الأشياء التي فقدتها، ولم أستطع استرجاعها قط، لقد صار فقدان هذا البيت تتويجًا لكلّ مفقوداتي".

اقرأ/ي أيضًا: محمد أبو لبن.. صفعة الغريق على وجه الماء

نستطيع أن نتخذ من قصّة "امرأة ومدينة" مدخلًا لمقاربة صورة المرأة/الأنثى في هذه التجربة التي وصلت إلى القائمة القصيرة لـ"جائزة الملتقى" في دورتها الأولى، حيث تتماهى الأنثى مع المكان/المدينة، حتى يصيرا وجهين لقبلة واحدة، بغضّ النظر عن ضمّ القاف أو جرّها، ولعلّ ذلك يرجع إلى أن كلتيهما تسبّبان الإحساس بالدفء والضّياع في الوقت نفسه. يقول الرّاوي: "لو قُسّمتْ المدن الفلسطينية حسب درجة أنوثتها وذكورتها، لكانت القدس سيّدة أنوثة هذه المدن". وإلى جانب التماهي بين المدينة والأنثى، نجد تماهيًا آخرَ بين السّرد والشعر، بحيث يمكننا أن نعزل عشرات الجمل لنقدّمها على أنها قصائدُ وامضة، غير أن الإبقاء عليها مزروعة داخل القصص أفضل وأقوى، لأنها تلعب دورها كاملًا في جعل الحالة السّردية أكثر إثارة وحرارة، ممّا يشي بأن الذات الكاتبة فعلت ذلك عن وعي ودراسة. يقول الرّاوي: "ها أنا أنجرف عن مسار الواقعة، باتجاه الشعر، تبًّا للشعر، فهذا ليس أبدًا وقته".

ثمّ أليس من حقّ القارئ غير الفلسطيني، الذي يقتني كتابًا قصصيًا لكاتب فلسطيني، يقيم في مدينة رام الله، بصفتها حالة إنسانية ومكانية محاطة بالغموض، بحكم صعوبة الوصول إليها، أن يجد في تلك القصص توابلَ وإشاراتٍ وروائحَ وألوانًا سرديةً تحيل على المكان والإنسان؟ إنني أطرح الأمر في صيغة سؤال، حتى لا أقع في وحل الإلزام الذي ترفضه روح الفن.

لقد تفطّن زياد خدّاش إلى هذا المعطى مبكّرًا، فاشتغل عليه بعمق، من غير الوقوع في الابتذال والمتاجرة بطبيعة اللحظة والمكان، ذلك أنّ هناك فردياتٍ فلسطينية غيرَ موهوبة، تسعى إلى التغطية عن قصورها الإبداعي بانتمائها الفلسطيني، معتقدة أن الانتماء إلى قضية عادلة ومكان مقهور، يشفع لها في ميزان الإبداع.



اقرأ/ي أيضًا:

رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

ميثم راضي.. باكورة النّار