"زهرة ستراند" يودّع القاهرة: هل طُويت صفحة المقاهي الثقافية للأبد؟
3 سبتمبر 2025
مع إغلاق مقهى "زهرة ستراند" في منطقة باب اللوق بوسط القاهرة، يُسدل الستار على واحدٍ من أبرز المقاهي الثقافية المعروفة. فقد كانت تلك المقاهي مساحة لتجمع المثقفين والتحدث حول كل ما يشغلهم من قضايا، كما مثّلت هذه الأماكن فرصة للتواصل بين الكُتّاب الشباب والكبار.
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي خبر حول إغلاق مقهى "زهرة ستراند" – والذي تتواتر المعلومات حول تاريخ تأسيسه بين 1937 و1958 – وتحوله إلى محل لبيع النظارات، حيث نشر كثيرون صورهم داخل المقهى كمحاولةٍ لتوديعه. ويبدو أن السؤال الأهم الآن هو :ما هي أسباب اندثار ذلك الشكل من المقاهي، وما الذي تبقى منها؟
لم تعد هناك مقاهٍ تحمل تاريخًا ثقافيًّا، يقول الكاتب الصحفي سيد محمود، الذي فجّر الأزمة على حسابه بموقع "الفيسبوك"، وأكمل حديثه قائلًا: "لم يعد هناك سوى مقهى ريش وزهرة البُستان، وحتى المقهيان تغير شكلهما عما كانا عليه في الماضي".
وبالنسبة إلى مقهى "زهرة ستراند" يقول محمود: "زهرة ستراند كان آخر ما ينتمي إلى القاهرة البسيطة، هو مقهى بسيط ونظيف، كل شيء في المقهى له قيمة في حد ذاته، اللوحات الفنية، الأصوات القادمة من الراديو، والعُمال أنفسهم، لكن هذا الشكل من المقاهي أصبح غريبًا عن قاهرة اليوم".
ويرى محمود أن زوال المقهى جزء من تبدّل المدينة بالشكل الذي عرفه أجيال سابقة. يُعد المقهى في موقعه بمنطقة باب اللوق مكانًا مميزًا، إذ يقع في قلب القاهرة، كما تصله وسائل المواصلات من مترو وباصات، إضافة إلى قُربه من الأحياء الشعبية مثل السيدة زينب، والأرستقراطية مثل وسط البلد وغاردن سيتي، كما يذكر محمود.
تعرّف محمود على مقهى "زهرة ستراند" منذ 25 عامًا، كانت جلسته الأثيرة عليه خلال عمله بجريدة "البديل" قبل ثورة كانون الثاني/يناير 2011، واعتاد على عقد اجتماعات مع فريقه الصحفي بالمقهى، وكذلك إجراء الحوارات الصحفية.
زهرة ستراند كان آخر ما ينتمي إلى القاهرة البسيطة، هو مقهى بسيط ونظيف، كل شيء في المقهى له قيمة في حد ذاته، اللوحات الفنية، الأصوات القادمة من الراديو، والعُمال أنفسهم، لكن هذا الشكل من المقاهي أصبح غريبًا عن قاهرة اليوم
يتذكر محمود أن "زهرة ستراند" كان مقصدًا لتصوير الأغاني والإعلانات، كما حضر – بالصدفة البحتة – وقت تصوير فيلم "المسافر" فيه، إذ يقول: "في أحد الأيام ذهبت إلى المقهى، لأجد صاحب المقهى يعتذر لي عن استضافتي في هذا اليوم قائلًا: "عندنا تصوير فيلم جوة لعُمر الشريف'، فطلب محمود منه أن يشاهد فقط عملية تصوير الفيلم، وإذ به يفاجأ بمعرفته لمخرج الفيلم أحمد ماهر الذي دعاه لحضور التصوير.
يذكر محمود أن الشاعر محمد حمزة والملحن محمد سلطان كانا من بين أشهر زبائن المقهى. كما عرف المقهى لاحقًا المترجم أحمد شافعي والكاتب حسن عبد الموجود، والمطرب محمد بشير.
لم يعد دور المقاهي الثقافية مستخدمًا كما كان في الماضي، يقول محمود، إذ أن التواصل في العصر الحديث أصبح أسهل من ذي قبل، ويعّقب الكاتب الصحفي: "الناس أصبحت تميل أكثر إلى الانسحاب والعُزلة، كما صاروا يقيمون في مناطق بعيدة عن بعضها البعض مثل الشيخ زايد والتجمع الخامس، فأصبحت فكرة اللقاء صعبة".
وطالب محمود على صفحته بتدخل وزارة الثقافة لشراء المقاهي ذات الصلة بالتراث الثقافي؛ مستشهدًا بما فعلته وزارة الثقافة في المغرب مع أحد المقاهي بمدينة أصيلة، فيما تساءل: "هل يُمكن لوزارة الثقافة شراء مقهى "زهرة ستراند" ليبقى موضوعًا للاستثمار الثقافي؟".
وفي تقرير منشور بجريدة الأهرام لسيد محمود، قال فيه إن نهاية مقهى "زهرة ستراند" جاءت مباغتة، فلم يحظَ بمعركةٍ للحفاظ عليه، وأن استسلام إدارة المقهى يشبه ما فعله صبي المقهى "زعتر" في مسلسل "ليالي الحلمية"، عندما أقدم على بيعه دون إدراك لقيمته".
وذكر محمود أيضًا داخل التقرير أن المقهى مثّل استراحة مريحة لرواده، كما كان مميزًا لإبقائه على بعض القواعد، إذ مُنعت تمامًا أي ألعاب فيه مثل "الدومينو" و"الطاولة" وألعاب الورق (الكوتشينة)، كذلك لم يوضع فيه شاشة تلفزيون، وظل المكان صامتًا إلا من صوت إذاعة الأغاني.
الأمر المميز أيضًا في مقهى "زهرة ستراند" هو السور الحديدي الذي يجلس بجواره رواد المقهى، وكأنه شرفة ينظرون منها إلى القاهرة، كذلك اللوحات الفنية بخط يد الفنان محمد العيسوي والتي زينت جدران المقهى، مما أعطاه طابعًا مختلفًا ومحببًا للزائرين.
يؤيد الكاتب والباحث عادل سيف حديث محمود عن اندثار المقاهي الثقافية، ويرى أن السبب في ذلك هو تقصير الدولة في الاهتمام بها، على عكس ما يحدث في دول أوروبية، ويضيف أن غياب الصحافة وغياب نجومها حوّل المقاهي الثقافية إلى مقاهٍ عادية، ولم تعد بها تجمعات من المثقفين والصحفيين والكُتّاب كما كان في السابق.
يُذكر أن كلمة "ستراند" قادمة من اللغة الإنجليزية القديمة، وكانت "strond" تعني الشاطئ أو حافة النهر. ويعدّ أشهر الأماكن المسماة بـ "ستراند" هو شارع قائم في لندن، وكان موطنًا للقصور الفاخرة، وعاش به تشارلز ديكنز وفيرجينيا وولف، فيما ضم العديد من المسارح وقاعات الموسيقى، وكان مركزًا لها في القرن التاسع عشر.
يذكر سيف أن من أشهر المقاهي الثقافية التي اندثرت مقهى "متاتيا" والذي كان قائمًا في محل الحديقة الواقعة أمام المسرح القومي بميدان العتبة، وكان يجلس فيه جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم، وهما أبرز وجوه الثورة العُرابية، كما توالى عليه المفكرون بعد ذلك، ومن بينهم المناضل سعد زغلول.
كلمة "ستراند" قادمة من اللغة الإنجليزية القديمة، وكانت "strond" تعني الشاطئ أو حافة النهر. ويعدّ أشهر الأماكن المسماة بـ "ستراند" هو شارع قائم في لندن، وكان موطنًا للقصور الفاخرة
وكان يوجد أيضًا مقهى "التجارة" والذي كان قائمًا في شارع محمد علي، وجلس فيه عباس العقاد والشاعر والناقد إبراهيم المازني خلال فترة الأربعينيات من القرن العشرين، ومقهى "البوديجا" أيضًا في شارع عماد الدين، ومقهى "سفنكس" والذي كان قائمًا أمام سينما راديو وجلس فيه نجيب محفوظ، وكذلك مقهى "علي بابا" الذي هُدم عام 2015.
يقول سيف: إن مقهى "زهرة ستراند" يعد آخر المقاهي الثقافية، وأن إغراء رأس المال أقوى من الإبقاء عليه، وبشكل عام يرى الباحث أن المقاهي الثقافية لم تعد قائمة؛ إذ أصبحت تجمعات المثقفين في الصالونات الأدبية والمكتبات، كما أن المقاهي أصبحت مكانًا لتجمع الشباب للعب "الدومينو" أو "الطاولة" ومشاهدة المباريات.