27-نوفمبر-2022
لوحة لـ ألبرتو بوري/ إيطاليا

لوحة لـ ألبرتو بوري/ إيطاليا

يجيء الليل أو لا يجيء ما عدت أتذكر، فالظلام هنا يغطي كل شيء. وحدي في هذا الحيّز الصغير من الفراغ أتنفس الأوكسجين أو النيتروجين. ليس مهمًا، ولا أدري إن كنت ما أزال في غرفتي القذرة أم أنني عائم في هذه البحار اللامتناهية من العتمة؟

من خلف زجاج النافذة هناك تموجات دائرية من الظلام، هناك خيوط بِيضٌ واهنة في طور التلاشي وأصوات بعيدة تبتلعها الثقوب والمتاهات. على أية حال ما زلت أشعر بوجودي، بتلك الحركة التي لم أفقدها، لكن أين ذهب الضوء الذي كان يغمر العالم؟ أين ذهبت زرقة السماء والبحار وبقية الألوان؟ أين اختفت الأصوات والأشكال؟

ما زال ينتابني الحنين لصوت الإنسان، لشكله وهو يبكي أو يضحك، لعذاباته وانفعالاته الحزينة، لدهشته الأولى في الأشياء، ليديه التي ترسم أو تعزف الموسيقى، ليديه التي تكتب الشعر، والتي تقتل أيضًا.

أشتاق لجنونكم أيها البشر!

أشتاق لأصوات الطيور صباحًا وللموسيقى التي كانت تملأ غرفتي.

أشتاق لصوت حبيبتي الذي كان يسافر معي في المدن وفي حرائق الذاكرة، لملامحها الشاحبة وهي تلوّح لي للمرة الأخيرة. ظلّ صوتها يبتعد، وأنا كنت أبتعد حتى لم أعد أسمع شيئًا سوى صوتها الذي يغزو حقيقة العالم، وما عدت أرى شيئًا سوى ملامحها التي تنصهر في جدران الليل.

يجيء الليل أو لا يجيء، وأنا غير قادرٍ على التذكر ولا النسيان. ربما أنا من ابتعدت كثيرًا حتى وصلت إلى هنا، وهذا الهنا ليس زمانًا ومكانًا، لكنه ممتد في كل زمان ومكان، مثلي تمامًا موجودٌ هنا وهناك، ولست موجودًا في الوقت نفسه، وسأشرح لكم لاحقًا كيف عِلقتُ في هذا النفق السابق على وجودي، والممتد بعده.

أتساءل أيضًا أين هي تلك الأفكار، أين هي المعارف والعلوم البشرية التي شيّدنا بها عالمنا؟

لا شيء من هذا، الظلام يملأ تلك الفجوة ولن تسعفني أي فكرة في الخلاص، كما أنه من المستحيل أن أصدق أنني قد تحولت إلى جرذ في جحر معتم بناءً على حركتي الضئيلة وفقداني لبعض الحواس البشرية. مستحيل أن يحصل هذا، فما زلت قادرًا على الشعور بنفسي، ما زلت قادرًا على الوعي والتفكير.

إذًا، كيف يموت الضوء بتلك السهولة؟ كيف يموت ما تبقى من وهج الإله؟

إن ما سأرويه لكم ليس قصة ولا حكاية للتسلية، بل مجموعة من الأحداث المتناقضة، لا يربطها شيء سوى التمزّق والخوف والاشمئزاز.

فيما مضى كنت إنسانًا لا يعنيه شيء في الحياة سوى الحذر الشديد من أن يصبح موضوعًا للسخرية أو الاستهزاء من الآخرين، لذا فقد قضيت سنوات طويلة من عمري وأنا أفكر كيف أرد اعتباري من الذين أهانوني وقللوا من شأني، وكيف أجعلهم يعترفون بقيمتي التي لم تكن تعنيني أصلًا.

في حقيقة الأمر كانت تنتابني رغبة مُلحّة من أعماقي لقتل أي شخص يعتبرني عديم الفائدة ويهمش وجودي، أو ينظر إليّ باستحقار وعين صغيرة، وهنا كانت تكمن لذتي السرية؛ في تلك المخيلة التي جعلتني صامدًا كل تلك السنون.

منذ أن رُفع عني سقف الحماية وانفصلت عن طفولتي مجبرًا، اصطدمت بالعديد من الجدران وأقوى هذه الجدران كان جدار الفشل والشعور بالدونية. أمشي كالجرذ ملتصقًا بكل جدار أراه كي لا يسحقني البشر، أمشي كل يوم وأنا محاصر بالخوف والعار؛ الخوف من أسئلة الناس ومن ابتساماتهم المرعبة وهم يوجهون أنظارهم إليّ، لذا أصبحت أكيل المدائح وأظهر محبتي للعديد من الناس الذين أرى فيهم تفوقًا وغرورًا واضحَين؛ فبهذا فقط أتجنب وبشكل وقائي هجومهم وأحفظ نفسي من الانسحاق تحت الأقدام. لكن والحق يقال، فقد أصبحت أضحوكة بالفعل، حدث هذا منذ زمن ليس بالقريب ولا بالبعيد أيضًا، عندما استضافتني إحدى القنوات لإجراء لقاء معي بوصفي صاحب مكتبة متنقلة للحديث عن الكتب، وعن دور القراءة في تنمية الوعي وتوسيع مدارك الإنسان.

في تلك الليلة التي قضيتها ساهرًا تراءى أمام عينَيّ كلّ الذين ظلموني وحقروني منذ طفولتي إلى تلك الفترة التي سبقت هذا اللقاء، لقد تخيلت كيف سيكون لقائي بمثابة صفعة كبيرة لهم وانتصارًا مدويًا لي، لقد رأيت رؤوسهم محنية ووجوههم ملطخة بعلامات الهزيمة، وأكثر ما كان يسعدني هو ذلك الصوت غير المسموع الذي سينبثق من أعماقهم: "كيف يمكن لهذا البائس الساذج أن يتواجد في مكان كبير كهذا، كيف يمكن لهذا الأحمق المعتوه أن يتفوّه بتلك الكلمات العظيمة؟". كان الصوت الخافت يعلو أكثر وأكثر من أعماقهم البعيدة، وأنا أحلق وأرفرف بيديّ، بل تجاوز تحليقي مرحلة الانتقام والثأر ليصل إلى كبار السياسيين والقادة وأصحاب رؤوس الأموال.

أنا ملك هذا العالم الآن، أنا سيد الأرض بلا منازع ولا أحد باستطاعته منعي من ذلك.

لقد تهيأت جيدًا لهذا اللقاء الذي سيكون حركة مفصلية في تاريخي وتاريخ أعدائي، فاشتريت بدلة سوداء وقميصًا أسود، وشذبت لحيتي وحلقتها لتتناسب مع ملامح وجهي الخشنة، بحيث أبدو بمظهر يوحي بالرهبة والعظمة.

لقد جاء اليوم الموعود، رغم أني لم أنَم من فرط الانفعالات المتضاربة التي جعلتني كثير الحركة ومضطرب التفكير، إلّا أني كنت سعيدًا بشكلٍ عامٍ، لكن هذه السعادة لم تكن تخلو من ألم خفي لم أستطع تحديده أو معرفة وجهته.

وفعلًا جاءت الأمور كما توقعت؛ لقد جلست جلسة تشي بالوقار والهيبة في عيون الآخرين، حتى أن هناك بعض الصور الفوتوغرافية اُلتقطت لي بالكاميرات وبأجهزة الجوال قبل بدء اللقاء. لقد كنت واثقًا ثقة شديدة بنفسي، لأن الموضوع الذي سأتكلم عنه هو من ضمن الأشياء الوحيدة التي أعرفها في حياتي، ولا أحد من التافهين أو المبتذلين يستطيع أن يشاركني بها. لقد أعددت خطة محكمة جدًا وتصوّرت السيناريو الذي سيكون محور الجلسة أو المعركة التي سأخوضها، لقد كنت المنتصر قبل المعركة.

 توجهت إليّ إضاءة الكاميرات الصاخبة، ومعها أنظار الألوف بل الملايين من الشعب الذي كان يشاهد هذا اللقاء المباشر وفقًا لتقديري، لكن قبل أن يطرح المقدم سؤاله لاحظت أن هناك شقًا صغيرًا في بنطالي، وأن أحد أزرار قميصي مفقود، وأن القميص الذي أرتديه لم يكن مرتبًا، بل وفيه لطخة بيضاء أسفل البطن.

سألني المقدم سؤاله الأول، لم أسمع السؤال، لقد نسيت كل شيء، نسيت الموضوع، ونسيت سبب وجودي، كنت كمن حُكم عليه بالإعدام وينتظر لحظة الموت بفارغ الصبر، لقد تعرّقت

بالكامل، وارتعدت فرائصي، لم أعد أشعر بأطرافي وكأنها انفصلت عني. بدأ قلبي يخفق بشدة وانقطعت انفاسي. لم أرَ نفسي إلّا وأنا ممدد على أرضية الأستوديو. لقد جلبوا لي الماء بعد أن أطفأوا الكاميرات، وألغوا حلقة البرنامج، ثم قادوني من يدي كالطفل التائه إلى الخارج، كان بعض العاملين في الأستوديو يضحك سرًا مع نفسه، وكان البعض مندهشًا ومشفقًا على حالتي المزرية، أمّا المخرج فقد كان يحرّك رأسه يمينًا وشمالًا ويمط شفتيه مصدرًا ذلك الصوت المعروف الذي ينم عن التعجب والسخرية والامتعاض في الوقت ذاته.. جك.. جك.. جك، وظلّ يكرّرها.. جك.. جك.. جك.

لم أستطِع سماع إلّا عبارة واحدة في حينها: أنت متعب للغاية، عليك أن ترتاح الآن، طريق الخروج من هنا.. إلى اللقاء.

أنت عاجز وفاشل، ولم تكن مسؤولًا حتى عن الأشياء التي من ضمن اختصاصك، هكذا وجهت الشتائم لنفسي، وتمنيت في تلك اللحظة أن ينتهي العالم فجأة وكأنه لم يكن أبدًا، لكن تمنيت أمنية أخرى مترادفة مع الأمنية الأولى؛ هي أن أرتدي حزامًا ناسفًا لأفجر مبنى القناة فيموت جميع العاملين فيها، وبهذا لا تتسرب فضيحتي لأي أحد من الأهل والمعارف أو الأصدقاء، حتى لو كان في ذلك موتي أيضًا.

ظلّت هذه الحادثة تؤرقني طويلًا وتشغل حيزًا كبيرًا من تفكيري، وبتُّ أراها في أحلامي بطرقٍ وأشكالٍ عدة.

مرّة حلمت أنهم متجمهرون حولي في دائرة ويشيرون إليَّ بأصابعهم ويقولون: هذا هو.. هذا هو.. هههههههههههههههههههه، ويضحكون. كل الذين أعرفهم كانوا يشيرون إليَّ بأصابعهم ويسألون أسئلة كنت أخافها، رأيت وجوهًا عديدة ملتفة حولي، من ضمنها الأموات وأصدقائي الافتراضيون في الفيسبوك، وحتى نادل المقهى المسكين كان مع تلك الجمهرة، وسائق التكسي والحلّاق، وبائع الخضروات، وغيرهم ممّن كنت أعطف عليهم وأعتبرهم هامشيين في الحياة.

في لحظات يقظتي كانت كل أفكاري تدور حول تلك الحادثة الكبيرة، وغيرها من الحوادث الصغيرة أيضًا. لقد فكرت بأشياء عديدة، ورفعني الخيال لمرتبة عظيمة فوق وجود البشر.

فكرت أن أنتحر لكي أعاقب الجميع بعد أن أثير اهتمامهم، لكن للحظة تذكرت أن انتحاري سيبقى لصيقًا بتلك الكوميديا المأساوية، فالانتحار العظيم يجب أن ينبع من فكرة عظيمة تُخلد صاحبها بعد مماته.

ثم فكرت أن أتسبب بإبادة جماعية للمدينة من خلال تسميم أنابيب المياه فيها بمادة قاتلة، ولم تكد تنتهي هذه الفكرة حتى استولت عليّ فكرة أخرى وهي بأن أصبح نجمًا سينمائيًا أو مناضلًا ثوريًا، ورأيت اسمي يتصدر العناوين الرئيسة في الصحف وعلى شاشات التلفزة.

رأيت نفسي محاطًا بالكاميرات والمصوّرين، ولوهلة سمعت تصفيقًا حارًا وأصواتًا كثيرة تنادي باسمي وتحييني، وأنا كقائد منتصر أقف شامخًا ورافعًا يدي إلى أعلى. لقد ألهبت الفكرة حماسي، فوضعت سماعة الأذن وبدأت بالاستماع إلى موسيقى فانجيليس أوديسياس "غزو الجنة"، صرت أذرع الغرفة جيئة وذهابًا.. بدأت بالهرولة ثم الركض، وجهت لكمة إلى الجدار بقبضتي الرخوة، رفرفت سريعًا بيدَيّ، قفزت عدة مرات، حاولت الطيران.

لا أدري ما هو الوقت، هل كان الوقت ليلاً؟

يجيء الليلُ ولا يجيء، وأنا ما عدت أعرف شيئًا، لقد أصابني إنهاك شديد وتشوش في الرؤية أشعر بآلام في عضلاتي وأمعائي، تسارعًا وتباطؤًا في نبضات القلب. لم أستطع حتى الخروج من غرفتي، ولم أعرف ما هو الوقت، فأوقاتي كلها ظلام.

إني أرتجف من الخوف، لقد تبرزت على نفسي

أنا عاجزٌ ووحيدٌ يا أمي، أنا أبكي الآن يا أمي!

*

هكذا هي حياتي ليس فيها أي خبرات أو تجارب، ولا يوجد فيها ما يثير اهتمام أحد؛ بل عبارة عن مشاريع غير مكتملة لرد اعتباري لم تخرج عن نطاق الأفكار والحوار الداخلي مع الذات المحطمة، فالكسل والعادة البشرية هما الآفة التي تجعلني أقف في المنتصف دائمًا، لأصاب بعدها بالإحباط والخجل من مواجهة المواقف المصيرية. كنت مفرطًا جدًا في المحبة والكراهية، فالشخص الذي أكرهه ما إن يبدأ بتقديم طقوس الولاء والاعتراف بي، حتى تطفح من أعماقي محبة تجاهه؛ تمامًا مثل محبتي لأي حيوان بريء يستفز عاطفتي للبكاء عندما لا يستطيع التعبير عن ألمه وحيرته.

بعض الأشخاص كانوا يرونني ودودًا ولطيفًا، وفي بعض المرات ينعتونني بالطفل الكبير لأن ملامح الطفولة ما زالت مترسخة في هيئتي وكلامي، لكنهم لم يعرفوا أنني حقير ومجرم، وأنني أتفوق عليهم بذكائي وحيلتي، فأنا لم أعرف الألم يومًا بل اللذة فقط، واللذة وحدها من كانت تدفعني لاختراق الحياة وتدميرها. أنا أبكي كثيرًا وأتذمر كثيرًا لأنني أجد لذة في شفقة الناس عليً، وفي نفس الوقت أتمتع خفية بعذاباتهم وآلامهم. أذكر مرّة أني تلقيت خبر وفاة أحد الأصدقاء فما كان منّي إلّا أن انفجرت ضاحكًا ودخلت في نوبة ضحك هستيرية لم أعهدها من قبل، وسط ذهول من حولي واندهاشهم ممّا كان يجري. لكن، بالله عليكم أخبروني هل اقترفت ذنبًا أو جريمة؟ فكل ما قمت به هو أنني حولت الانفعال إلى نقيضه، وحده الموت يستحق منّا أن نضحك وأن نرقص احتفالًا بنقصان البشرية رقمًا من أرقامها، ثم ألا يعبّر الموت عن أعمق عواطفنا الوجودية ويدخل في صميم حياتنا اليومية؟ نحن نموت من الجوع، نموت في من نحب، نموت من الضحك، نموت من الألم، نموت من الضجر. ألا يعبّر الموت عن أعمق دعابة وهو ينظم حياتنا ولغتنا؟ يولد الإنسان ويكبر ويتزوج، وتكون مسيرته حافلة بالعطاء والإنجازات والعظمة، ثم نراه صلفًا مغرورًا فلا نستطيع أن نكلمه إلّا عن طريق وساطة أو من خلف جدار، نراه نحن الفقراء فقط على شاشة التلفاز أو في المناسبات الكبيرة، ولا نتخيل أننا سنلتقي به يومًا أو نكلمه، لأننا سنركع عند قدميه أو نرتعد كالقنافذ الجبانة، وليس بوسعنا أن نتخيل أيضًا أن هذه الشخصية المشهورة يمكنها أن تكون عارية، أن تمارس الجنس أو تتغوط، لكن بعد فترة وجيزة جدًا من وفاته، إن فتحنا قبره داهمتنا رائحة عفنة أسوء من رائحة الخراء، أليس هذا مستفزًا للضحك عندما نعي أن الإنسان جيفة كيميائية. هل هناك فرق بين جيفة وأخرى؟ نعم هناك جيفة تقتل جيفة، جيفة تعيش في القصور وتسرق خيرات الأرض، وجيفة تعيش في الحضيض والمراحيض، جيفة تريد أن تكون أكثر قربًا إلى الله، وجيفة تريد أن تتمرد على الله أو تتبوّل عليه.

كل هذه الجيف تحاول أن تجد معنى لوجودها خارج القذارة الكونية. ثم لماذا تلومونني إن ضحكت لموت أحدهم، أليس الضحك والبكاء يشتركان في نفس القهقهة، ويشتركان بنفس الدموع، وأليس في كلاهما رياضة ولذة للنفس؟

حتى في المرض أجد لذة من نوع خاص، ولذة في رائحتي النتنة، ولذة أخرى في إهانة الناس وشتمهم لي. لكن اللذة يجب أن تكون متحفزة دائمًا وأن يتسع نشاطها في المخيلة، يجب أن تسيطر اللذة على كل مفاصل حياتنا، لكي تستمر غريزة البقاء ويترسخ وجودنا أكثر.. بماذا؟ باللذة الوحشية والداعرة، تلك اللذة التي تذكرنا بالجزء الحيواني فينا.

تنتابني أحيانًا رغبة شريرة في امتطاء أي فتاة في الشارع؛ أحب أن أركبها كأي حيوان مفترس، أن أضاجعها بعنف وأعض رقبتها الطويلة الملساء إلى أن تسيل منها الدماء، ثم أتركها والمني يسيل من بين أفخاذها، دون التفكير بأية نتائج أو عواقب أخلاقية.

لكن سعادتي الحقيقية تكمن في الاحتفاظ بشهوتي لأطول مدة، فأحيانًا تصبح هذه الشهوة عميقة جدًا بعمق تفكيري الفلسفي. قد يكفيني من هذه الشهوة فقط أن أحتك بفتاة وهي مستمتعة لكن دون أن أقذف، بل أمعن النظر أكثر في نشوتها وهي تتلذذ برفع قدميها الوحشيتين، كذلك عندما أكون مريضًا تزداد طاقاتي الجنسية، لكن هذه الطاقة هي من تحفظني وتعمل كعلاج وقائي بشرط عدم تبذيرها، فما إن تتبدد تلك الشهوة في غير مكانها حتى يعود الضعف والوهن إلى الجسد المريض.

أشعر بقوة جنسية متفجرة في حالات الثقة الشديدة بالنفس عندما أنتهي من القراءة والكتابة مثلًا، أو إنجاز أي شيء مهم يقودني إلى كسب ود الآخرين وإعجابهم بشخصيتي، فبعدها يستولي عليّ حب للحياة وتشبث بها، إن هذا القضيب المتدلي المثقل بحيوانات منوية كثيفة ما أن ينتصب وينتفخ إلى أقصى حد ويتصلب، حتى تشعر بتلك السيادة وهذا العلو على البشر وطبيعتهم الفانية.

إن المرأة أيضًا يمكنها أن تشعر بفحولة الرجل وشهوانيته، فهي أكثر إحساسًا بتلك النقطة تحديدًا، لكن الرجال يغيب عنهم كثيرًا مظهر المرأة وهيئتها التي تشتهي الرجل، وتتمنى مضاجعته، فهناك تغيّر في لون البشرة وملمسها، وتغيّر في الصوت والملامح، وعادة ما يكون هناك تشنجًا في عضلات المهبل وتدفقًا لمائها الأنثوي يظهران في حركاتها ومشيتها، لكن الرجل الذكي وبحدسه البدائي الموروث من الغابة هو من يستطيع ملاحظة هذه الصفات والتغيرات عند المرأة، وعادة ما تكون هناك رائحة تجذب الذكر والأنثى للمضاجعة، هذه الصفات والروائح موروثات جينية من أسلافنا الأوائل ولا نستطيع كبتها، لكن الحضارة هي من قتلت فينا الإنسان بسلاح العقل والتمدن.

إن مجمل النشاط البشري بتمظهراته الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبكامل صراعاته هو رهين لغريزة الحياة، حتى في أعمق حالاتنا الروحية وأكثرها صفاءً، يداهمنا الجنس مثل وحش أليف، إذن فالتفكير الحقيقي هو الذي ينبع من الأسفل لا من الأعلى.

نحن البشر عبارة عن خلايا مفكرة، خلايا تقتل بعضها البعض، والخلية الأقوى هي التي تكون أقرب للروح، وبقدر ما في أعماقنا من شر بقدر ما تطول أعمارنا أكثر.

ومن قال إنني لم أقتل منكم أيها الحشرات، أيتها الخلايا الضعيفة التي لا تستحق سوى الموت كي يعود العالم بريئًا وقويًا.

ليتني كنت حرًا لألتزم الصمت بعد هذه العاصفة من المآسي والدموع، وليت الذي سأرويه لكم الآن يصلح أن يكون قصة أو رواية أو حتى فيلمًا سينمائيًا، لكن لا هذا ولا ذاك، ولست أنا من يتكلم وإنما الأشياء هي التي تنطق من خلالي، وكل شيء في دوائر الحياة يتكرر، يتمرأى في شريط مصور، ويدور كما تدور الأرض والكواكب والمجرات، وكما تدور مصائرنا وأقدارنا وتتقاطع عند نقطة البداية التي سينتهي عندها كل شيء.

*

في ليلة من ليالي ديسمبر الماطرة حيث لا شيء سوى صمت كئيب يخيّم على الطريق، وفي اللحظة التي أصبح صوت الذكريات والأفكار يعلو في رأسي؛ التقيت بشخص كنت أعرفه في طفولتي، لم تكن تربطني به أية صداقة أو علاقة، بل إن علاقتي معه في الطفولة لم تتعدَ علاقة الجلاد بالضحية، كان يكبرني بعدة سنوات، لكني كنت أضخم منه جسدًا وحجمًا، أمّا هو فقد كان ذا جسد ضعيف ومشدود، وتبدو العروق بارزة من يديه وساعديه، كانت تسري في جسده كل أنواع السموم والحقد، بحيث أن ضربة واحدة من قبضته المشدودة الصغيرة كانت تصيبني بكدمات وآلام تستمر معي لأيام عديدة، عكس قبضتي الضخمة السمينة التي لم تكن تفعل شيئًا سوى التلويح البطيء في الهواء والفشل في توجيه اللكمات، كان هذا الشخص يربطني بالحبال ويجلدني بالأسلاك الكهربائية، وفي مرة من المرات حاول خنقي بساعديه المسمومَين، ومرّة لطّخ وجهي بوحل آسن تملؤه القاذورات.

عندما التقيته آخر مرة سلم عليً وعانقني، إذ مازال يحسب نفسه صديقًا للطفولة، وأنا أيضًا تظاهرت بالمحبة تجاهه، تكلمنا نحن الاثنان وكأننا لا نعرف شيئًا عن ماضي الجلاد والضحية، بل تكلمنا عن الزمن الجميل، وقد كان يصر على كلمة الزمن الجميل، أمّا أنا فلم يكن لي زمنٌ جميل أبدًا.

أثناء كلامه لاحظت أن الصلافة والعجرفة ما زالتا تسكنانه، وفي بعض المواضع كان يلمح لي بأني جبان وضعيف، لكن ما أثار رعبي أكثر أن هناك حركة في أنفه كان يقوم بها قبل جلدي أيام الطفولة، وهي رفع أنفه وفتح منخريه، فيبدو تمامًا كخنزير وردي.

الأمر الذي دفع بي إلى التخطيط لقتله بعد أسبوع تمامًا من موعدنا الأول.

لكن كيف قُتل؟ هذا الأمر هو سر الأسرار، فيدٌ إلهية قد ساعدتني على ذلك. حتى أن أحدًا لم يعثر عليه، ولم يجد له أيأثر، فأهله والمقربون منه والشرطة أيضًا تأكدوا من أن الجماعات الإرهابية قد خطفته وقتلته، لكنه في الحقيقة ظل في منزلي أكثر من شهر قبل أن يختفي أو يموت، وكان مقيّدًا على كرسي معدني، لكن كلما حاولت لكمه بقبضتي التي ما زالت ضخمة وسمينة، كنت أتألم من جسده الصلب النحيف المملوء بالسم، وقد تعبت من جلده ومن سكب التيزاب على مواضع من جسده، فهو لم يكن يحس بالألم بل كان يشخر كالخنزير الهائج و يفتح منخريه الكريهَين، لذا اتجهت إلى التعذيب النفسي الذي كان يروق لي في مخيلتي دائمًا، فأجبرته على عدم النوم، وأن يقرأ كتاب رأس المال لكارل ماركس، وأن يحفظ بعضًا من صفحاته ليرددها على مسمعي، لكن عندما مللت من غبائه ومن خنّة صوته المستفزة للأعصاب؛ سحبته إلى المزرعة خارج المنزل وهو مقيّد بالكرسي المعدني وربطت الكرسي إلى جذع شجرة، عندها أحسست بخوف شديد ورعب تملكا أعصابي وكياني، فعدت طفلًا وعاد هو الجلاد، فما وجدتني إلّا وقد تناولت حجرًا كبيرًا وقذفته إلى رأسه، لكنه ظل مبتسمًا والدماء تسيل من ثقب في رأسه. كررت المحاولة، ضربته بصخرة أخرى، ثم بقضيب حديدي كبير. كانت الدماء تتدفق بغزارة من رأسه، لكنه ظل مبتسمًا ورافعًا منخريه إلى أعلى، الأمر الذي جعلني أسقط أكثر في الرعب وأتبول على نفسي، تمامًا كما كان يحصل معي وأنا طفل عندما يصيبني الخوف الشديد منه.

هذه المرة كنت أضرب بقوة ولم تفشل ضرباتي؛ كنت أضربه بكل ما أوتيت من ألم وعذاب، بكل ما أوتيت من صراخ وبكاء، وكنت أردد: عليك أن تموت أيها الجرذ.. عليك أن تموت أيها الجبان. فجأة تلبستني يقظة شديدة، وسيطر على حواسي تركيز عميق وغريب عن حالتي البشرية المعتادة، إذ لاحظت أن الوجه المهشم كان وجهي أمّا العينان فكانت عينَيّ وأنا طفل، تلك اللتين كانتا ترتعشان وتتوسلان بدموعهما ونظراتهما الملائكية قبل أن يلقى صاحبهما عقابه الظالم بالضرب والتعذيب الوحشي. لقد كانتا في غاية الرقة والبراءة. وحدها البراءة من تخيفني وتعذب ضميري الأبكم، وحدها الطفولة من تجعلني أسقط في رعب الفجيعة. لقد صار يحمل رأسي وأنا طفل، أما جسده ما زال كما هو. هنا اندفعت بسرعة جنونية وأحضرت سكينًا حادة واستطعت بسهولة فقء العينين واقتلاعهما من محجريهما، لكنه رغم ذلك لم يمُت بل حاول النهوض والإمساك بي بيديه النحيلتين المسمومتين. نجحت في الهروب وأغلقت على نفسي جميع الأبواب والنوافذ في المنزل، لكنه ظلّ في الخارج يترنح ويرتطم تارة بزجاج النوافذ، وتارة يشخر كالخنزير.

لكن شيئًا ما حدث أنقذني من تلك الجثة الممسوخة التي تريد قتلي، وتأبى هي أن تموت، شيء أشبه بمعجزة لا تحدث لنا إلّا في الأساطير، فقد ضربت المكان صاعقة قوية من السماء وأصابته، إلّا أنها لم تقتله بل جعلت جسده ينكمش ويضمحل حتى أصبح أكبر من حجم الكف بقليل، أو تمامًا بحجم الجرذ، عندها فقط فرّ هاربًا مع الأمطار والوحول التي غمرت الأرض.

*

إني أبكي كثيرًا يا حبيبتي وأسجد في معبد ذنوبي وآثامي أمام جسدك الطاهر كالمعصية، ليتبارك نورك الشيطاني وخطاياك اللامعة كالنجوم، خذيني إليك مرة أخرى لقد عدت طفلك الذي تحبين، أحتاج أن أرتمي في أحضانك الآن، لكني قتلتك أيضًا، قتلتك دون أن أعلم، كل ما كنت أريده هو أن ألتصق برحمك وأن لا أخرج منه أبدًا، فالوحوش والأشباح تتربص بي خارجًا.

لقد بترت حلمتك المنتصبة عندما كنت ترضعينني، كانت الدماء تسيل وأنت ترتجفين، ها هي بركة الدماء تملأ الغرفة وأنا أعوم فوقها وأطلق ضحكتي الطفولية.

سامحيني يا حبيبتي، سامحيني يا آلهتي الحنون.

إني أبكي كثيرًا يا أمي، إني أبكي كثيرًا يا الله يا أبتي الجبار. إني أبكي كثيرًا أيها العالم!

وحدهم البشر مسؤولون عن كوابيسي وأمراضي، وها أنا أتطهر بالخطيئة والجريمة لكي أكون أكثر قربًا إلى الله. بعد كل حفلة من حفلات الجنس وبعد كل جريمة؛ أصبح أكثر طهرًا ونقاء وأصلي لإله غير موجود، لأن آلهة عديدة تثمل في أعماقي وترقص فوق خراب العالم.

لقد بدأ جزءٌ كبير من جسدي بالتعفن والتحلل، لكني ما زلت قادرًا على التذكر والوعي، ما زلت قادرًا على التفكير والصراخ والبكاء. الوعي لا يموت، بل ينتقل إلى شخص آخر أو إلى عدة أشخاص، ولا أدري عدد المرات التي تلبسني فيها وعي الآخرين في لحظات الإشراق الكبرى؟ هل كنت وعيًا يزور الآخرين في أحلامهم، أم حلمًا مزدحمًا بوعي الراحلين عن عالمنا؟ هناك شيء ما في الإنسان يتوهج بالأبدية، شيء لا يموت ولا يفنى.

لست ميتًا ولا حيًا إنّما الاثنان معًا، ما ينقصني هو الضوء فقط لأثبت لكم ما مرّ بي من أحداث، وقد وعدتكم أن أقول لكم كيف وصلت إلى هذا المكان؟

في حقيقة الأمر إن الإنسان لا يعيش في مكان واحد وزمان واحد، بل في مكان وزمان مزدوَجين، أو في عدة أمكنة وأزمنة مزدوجة، فأنت ما زلت تحيا في الأمس مثلما تحيا الآن وفي الغد، الأمس متحقق في مكان ما، لأن لكل مكان زمانه الخاص، أنت هنا وهناك في الوقت نفسه، وما حصل معي أني كنت عالقًا في تلك النقطة التي تربط وجودي بكل هذه الأزمنة والأمكنة. إن الأرض جزءٌ من هذا الكون الأحدب، وهناك جسور تختصر المسافة بين نقط الزمان والمكان. حسنًا لا أريد أن أدخل في تعقيدات الفيزياء والنظرية النسبية كي لا تتهموني بالعجز والفشل كما كان يحصل معي في كل مرة.

هل جرب أحدكم أن يسأل عن الزمن في الحلم؟

هل تتبَّع أحد الضوء الخاص به قبل أن ينطفئ أو يتلاشى؟

في الحلم نكون في مكان معين، ثم ننعطف إلى درب ضيق، فنخرج إلى مدينة أخرى نكون قد زرناها سابقًا أو لم نزرها من قبل.

نرى الأموات أو الأشخاص الذين نخافهم في الحياة بطرق وأشكال عديدة؛ قسم منها مرعب جدًا، وقسم آخر بشكل مضحك، فقد نراهم عراة أو شبه عراة لا يفصلنا أي حاجز بينهم، أو نراهم من بعيد يمارسون الجنس، وحتى نحن قد نمارس الجنس في الحلم مع محارمنا الأموات أو الأحياء منهم. لقد كلمني الكثير من الأموات دون أن أركز على أجسادهم، كانت رؤوسهم تتمايل مع الرقاب وتستطيل بشكل مريب، أو تخرج لك فجأة من مكان لم تتوقعه. في البداية ستسأل كثيرًا لكن كل إجابات الموتى لن تتذكر منها شيئًا في الواقع، وتحديدًا فيما يخص الحقيقة أو عالم ما بعد الموت، كل ما تتذكره هي أشياء تتعلق بوقتك الحاضر ومشاكلك الآنية، لقد عانقت الموتى كثيرًا في الحلم وبكيت معهم، لكن أثناء العناق كنت أشعر أن أحدًا يضغط بقوة على إبهامي الأيسر، أو يدًا ما تحاول اقتلاع خصيتَيّ من مكانهما.

في الحلم أطير كثيرًا عندما أود الخروج أو الهروب، أو عندما أكون فزِعًا من مشهد مروع. لا وجود للجاذبية في أحلامنا، دائمًا ما كنت أطير في الظلام، وفي الظلام وحده أقف متفرجًا على ذواتي التي انفصلت عني في مرايا الليل وسكونه الأبدي.

يجيء الليل ولا يجيء..

من ذلك الزمن المهجور

جاء الليل شفافًا.. بجناحيه وأسراره العميقة.

دلالات: