08-يونيو-2022
لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي

لوحة لـ زبيغنيو ماكوفسكي/ بولندا

في تقديم مجموعته القصصية "ليلة الزفاف"، وصف توفيق الحكيم القصة القصيرة بأنها "فن اقتضاب وتركيز" شأنها في ذلك شأن المسرحية والقصيدة. لافتًا إلى أن "هذا التركيز هو الذي قد يجعل منها فن المستقبل.. ذلك أن أدب المستقبل لن يحتمل الإسهاب".

ويتابع الحكيم شرح فكرته: "فالقارئ الحديث الذي يعيش في عصر الطائرات النفاثات لن يطيق طويلًا الاسترخاء في مطالعة مئات الصفحات ليحيط بصورة من الصور أو شخصية من الشخصيات".

القصة من روح هذا الزمن وهذا ما جعلها تغدو ضحية. إيقاعها من إيقاع أيامنا فضاعت وسط "البوستات" و"التغريدات" والمقبوسات.. أما الرواية التي تملك إيقاعًا مختلفًا تمامًا فقد صارت المعادل الذي ينجح في خلق توازن ما

ويتساءل إن كان مجد الرواية قد انقضى بانقضاء القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وهو وإن لم يقدم إجابة قاطعة إلا أنه يعود إلى التأكيد على أن طابع القصة القصيرة "بما فيه من ضغط وتركيز وإيجاز وتلميح هو الأدنى إلى طابع العصر الحديث في مستقبله القريب".

ويعدد صاحب "أهل الكهف" "زخارف العصر" التي تنازع الكتاب على عقل ووقت القارئ، والتي من شأنها أن تلقي بالرواية الطويلة إلى هامش الاهتمام: المجلات المصورة الملونة والراديو والتلفزيون.. كان هذا منذ نصف قرن تقريبًا، عندما لم يكن مارك زوكربيرغ قد ولد بعد، وشبكة الانترنت برمتها كانت مجرد فكرة.

نبوءة الحكيم نصفها صحيح: اتجاه العصر يشير بالفعل إلى مزيد من السرعة والاختزال والاقتضاب، ما تجاوز كثيرًا القصة ذات الثلاث أو الأربع صفحات، وصولًا إلى تغريدة من ثلاثين أو أربعين كلمة.

ولكن النصف الثاني باء بالإخفاق: لا القصة القصيرة (التي من المفترض أنها الأكثر انسجامًا مع هذا الاتجاه) تقدمت وتصدرت، أو حتى حافظت على موقعها، ولا الرواية أفلت أو تراجعت إلى هامش الاهتمام.

ما سر هذه المفارقة؟ لماذا انحسرت القصة القصيرة في وقت يبدو أنه وقتها؟ ولماذا لا تزال الرواية تسجل رواجًا (نسبيًا.. نسبيًا بالطبع) في زمن يعتبر فيه القراء أن "البوست" الذي يتجاوز الثلاثمئة كلمة هو نص طويل أكثر مما يجب؟!

إجابة شائعة: إن كتابة القصة القصيرة توحي بالسهولة وبأنها في متناول الجميع، ما جعل الكثيرين يركبون موجتها، فكثرت العملة الرديئة محولة تلك الجيدة إلى قطع صغيرة متناثرة في تلال من القش. وكذلك فللقصة القصيرة بنات عمومة اعتدن مخالطتها والامتزاج بها، مع ما صار لبعضهن من سمعة رديئة (الخاطرة، الحكمة، الومضة، المفارقة..).

إجابة أخرى: إن روح العصر هي التي همشت القصة، كما همشت الشعر من قبل. فنحن في زمن النثر، العادي، الحياة اليومية المترعة بالتفاصيل، الفضاء المزدحم بالأخبار والصور التلفزيونية وتحليلات الخبراء وشروحات الأطباء وتوقعات الاقتصاديين.. عالم يطرد لغة الإشارة المركزة والإيماءة الموحية والهمسة الدالة والصورة المشحونة.. عالم لا مكان فيه لمرتكزات القصة القصيرة وعناصرها.

القارئ الذي يلهث طوال اليوم وراء المواجز والمقبوسات والكبسولات سريعة الهضم، يحتاج أن يسرح في حكاية طويلة، ويتأمل في مساحة رحبة، ويدقق في مقطع عريض من الحياة البشرية.. باختصار: يحتاج أن يقرأ رواية

ويقال أيضًا، وخلاف ما سبق، إن القصة هي من روح هذا الزمن وهذا ما جعلها تغدو ضحية. إيقاعها من إيقاع أيامنا فضاعت وسط "البوستات" و"التغريدات" والمقبوسات.. أما الرواية التي تملك إيقاعًا مختلفًا تمامًا فقد صارت المعادل الذي ينجح في خلق توازن ما. إن القارئ الذي يلهث طوال اليوم وراء المواجز والمقبوسات والكبسولات سريعة الهضم، يحتاج أن يسرح في حكاية طويلة، ويتأمل في مساحة رحبة، ويدقق في مقطع عريض من الحياة البشرية.. باختصار: يحتاج أن يقرأ رواية.

تجمع الإجابات السابقة على حقيقة: تراجع القصة القصيرة. ولكن ماذا عن بورخيس الذي لا يزال مقروءًا بقدر أشهر الروائيين العالميين؟ ماذا عن تشيخوف الذي لا يزال طازجًا؟ ماذا عن يوسف إدريس وقصصه البعيدة تمامًا عن الكساد؟ وماذا عن قصص نجيب محفوظ التي لا تزال مقصدًا للكثير من عشاق الأدب؟

ماذا إذًا؟ وكأن أمر الانحسار والتراجع لا يتعلق بالقصة القصيرة كفن بذاته، بل بنتاجاتها الراهنة.. وهنا يلوح سؤال يبدو مستنكرًا بقدر ما يبدو مشروعًا: لماذا أصيبت القصة القصيرة بالعقم فجأة؟!