14-فبراير-2023
زلزال تركيا 2023

 وجه تلك الفتاة التي يتحدّث عنها أورهان باموك في مقاله الأخير في نيويورك تايمز، ليس غريبًا عنّا. المشهد مألوف ومتكرر، للسوريين والفلسطينيين وسواهم في هذا الجزء متعدّد النكبات والأرزاء من العالم، لكنّ الجاني مختلف، وإن كان هو الآخر فوق المحاسبة. الفرق في حالة السوريين اليوم هو أن الأيدي التي هُرعت لانتشالهم ظلت قليلة، لا يحرّكها سوى القهر الحارق، ولا يدفعها للنبش الذي بدا لوهلة ما عبثيًا، سوى تلك الظروف التي خلقتها سنين الحرب الكدرة، التي جعلت أرض السوريين نحيلةً وهشّةً من تحتهم أينما كانوا وحلّوا، وجعلتهم في الآن ذاته محترفين معًا في التشبّث بالحياة، ولو على سبيل النكاية وحسب ممّن يسعى لسلبهم منها.

زلزال تركيا 2023

الزلزال الذي حصل فجر الإثنين الماضي، لم يعرف هويّة الأرض التي شقّها، ولم يلحظ الحدود الفاصلة بين جنوب دولة وشمال أخرى. مدن وبلدات وقرى محقت محقًا، في مرعش وهاتاي وأنطاكيا وعنتاب وفي الأتارب وجنديرس وسلقين وسرمدا وغيرها. ورغم الألم الإنساني المشترك، وحالة التضامن المطلقة مع جميع الضحايا، تبقى ثمّة "نحن" عربيّة تسدعي عاطفة إضافية، مع تتابع المصائب، وتدفعنا ولو خجلًا لمحاولة اقتسام الوجع، أو ادّعاء ذلك، كأحد لوازم العروبة والاهتمام بها. ثمّة ما يهتزّ ألمًا وحسرة، مع ملاحظة الخذلان العالمي والتأخر في إنقاذ الشمال السوري، لاسيما عند المقارنة بين حالين، في جنوب تركيا، حيث فرق الإنقاذ من نحو 50 دولة، واستمرار العثور على ناجين حتى بعد 200 ساعة على الزلزال، وفي الشمال السوري حيث بدت الخيارات بحسب الإمكانات المتاحة محدودة للغاية ومريرة كلّها؛ فانتشال الجثث ودفنها في نظر السوريين، هو السبيل لطرد شبح الموت ومنعه من المكوث طويلًا في أرضهم، كي يزرعوها قريبًا بالحياة.

في مقاله الذي حاول فيه التأكيد على غضب الشارع التركي من الطبيعة والحكومة، يختزل أورهان باموك المأساة في حالة صبية ضاعت قصّتها وهي تحت الركام، وكان مما جاء فيه بتصرّف:

 

"رأيت عيني طفلة في العاشرة أو الثانية عشرة من عمرها وحسب. بالكاد تمكّنت من الحركة وهي تحاول التحديق في كاميرا الهاتف، وكأن كل حركة منها قادمة من هوّة سحيقة من شدّة بطئها. أما الرجل الذي يحمل الهاتف ويصوّر به، فصرخ من فوره لحظة رؤيتها، باستبشار ودهشة:

"هنا فتاة تتنفّس.. هنا فتاة على قيد الحياة".

لم يكن من حوله أحد ليسمع النداء. ليس ثمّة إلا شعاع ثقيل يهبط على الثلج الهشيم الذي جلّل الأرض، في إحدى مناطق جنوب شرق تركيا، حيث وقع زلزالان مدمّران بقوة 7.8 درجات و7.5 درجات على مقياس ريختر.

اقترب الرجل أكثر من الصبية التي شلّ حركة طرفها العلوي لوح خرساني ثقيل سقط عليها. لا هو يعرفها ولا هي تعرفه. سألها: هل أنت عطشانة؟

"أنا بردانة، وأخي هنا أيضًا".

"هل تستطيعين الحركة؟"

"لا"، ردّت الصبية بصوت متقطع واهن، لكنها رغم ذلك بدت حريصة على أن يكون مسموعًا، ففي عينيها بعض الأمل. مضى عليها بتلك الحالة نصف يوم كامل، منذ أن ضرب الزلزال في الرابعة بعد الفجر، وقريبًا سيحلّ عليها الليل من جديد.

"هل تستطيعين تحريك ساقيك؟"

"صعب جدًا"، قالت الصبية بصوتها المتهدّج، الذي يصعب فهمه. لكن رسالة جديدة قد ارتسمت على وجهها، كأنها كانت تخفي شيئًا، أو أنها شعرت بالحرج من عيبٍ شخصي ما.

الثلج الذي تساقط على نحو متقطّع آناء الليل وفي الصباح غشّى ألم الأرض وما عليها من موت وموات، وهطل على ركام المباني الطابقيّة الشاهقة التي انهارت خلال ثوانٍ معدودة في جنح الليل.

خيّل إليّ أن الرجل الذي يصّور الصبية بالهاتف تائه هو الآخر، لا يعرف ما يتوجّب عليه فعله. فلا هو يستطيع انتشالها وحده من تحت تلك الركامة الإسمنتية المرعبة، ولا هو يرغب في تركها وحيدة هناك. حلّ الصمتُ بينهما، وانطفأ شيءٌ في عيني الصبية، ولم يبق في قسمات وجهها سوى ما يدلّ على الإعياء وفرط الألم.

"اصمدي، سأذهب الآن وأحضر المساعدة، سنخرجك من هنا".

لكنّ لهجة الرجل كادت تفضح يأسه. فهذا الحيّ الذي سوّي بالأرض، بعيد عن مركز المدينة، والشوارع والجسور أصبحت مدمّرة، والمساعدة ستتأخّر على الأرجح. فحتّى من تمكّنوا من الخروج أحياء من بين الحطام هنا، هربوا فزعين في الليل الحالك المثلج، وراحوا يبحثون عن مأوى دافئ بعيدًا من هذه النقطة.

أما الصبيّة وأخوها، فقد يكونا هما الوحيدين الناجيين بين أهلهما، وربما لن يكلّف أحد نفسه عناء البحث عنهما.

"لا تذهب!"، قالت الصبية العالقة.

"لا بدّ أن أذهب، ولكني سأعود إليك، ولن أنساك. عليّ أن أذهب وأجلب المساعدة".

الصبية التي مرّ عليها شطر يوم وهي حبيسة وحدها تحت حطام بيتها، باتت تحضّر نفسها للموت، ولم يعد لديها أية قوة على الاعتراض.

لكنّها رغم ذلك رجته مجددًا، بنداء خائر مهموس الصوت من شدّة التعب: "لا تذهب".

"سأذهب وأحضر من يساعدنا". قال لها الرجل، بصوت ظلّ عاجزًا عن بعث الثقة رغم ارتفاعه هذه المرّة.

زلزال تركيا 2023

في هذه اللحظة، ينتهي المقطع المسجل على الهاتف. لا نعرف إن عاد الرجل حقًا لمساعدة الصبية. كل ما نعرفه هو أن ذلك التسجيل كان واحدًا من بين مئات الشهادات والمناشدات اليائسة التي سمعناها منذ اليوم الأول على الكارثة، ونحن مشدوهون أمام شاشاتنا لساعات طويلة. هذا الرجل، وكثيرون سواه، نشروا هذه المقاطع على تويتر، مباشرة، وبلا أية حاجة لتعليق إضافي.

انتظرت طويلًا على تلك الحال وأنا أتأمّل العثور على مقطع آخر تظهر فيه الفتاة وقد وصلتها المساعدة، لكن ذلك لم يحصل.

لم يكن الحصول على العون في تلك اللحظات الأولى من الزلزال أمرًا هينًا كما تخيّل صاحبنا. بحسب الأرقام الرسمية، تهدمت آلاف مؤلّفة من المباني أو تحطّمت، وتجاوز عدد القتلى في تركيا وسوريا معًا 37,000 قتيل. مئات الطرقات والشوارع باتت مغلقة، وشبكة الهاتف تعطلت لفترات متقطعة بسبب مشاكل في الشبكات والكهرباء، ولاسيما في البلدات والقرى النائية، التي سمعنا عبر تويتر وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي أنّها قد سوّيت تمامًا بالأرض، ولم يكن العقل قادرًا على تصديق ذلك.

زلزال تركيا 2023

إنه الزلزال الأكبر الذي يضرب تركيا منذ أكثر من 80 عامًا، وهو رابع زلزال عظيم عاصرته في حياتي منذ أن كنت طفلًا. في العام 1999، وبعد زلزال مرمرة الذي بذهب بأكثر من 17,000 من الضحايا، توجهتُ إلى يالوفا، وهي إحدى البلدات التي قصمتها تلك الكارثة، وجلت فيها ساعات بين الركام والخراب، يملؤني شعور بالذنب والمسؤولية، وأن عليّ على الأقل أن أبادر إلى المساعدة في إزالة شيء من هذه الأنقاض. لكني عدت من حيث أتيت، غير قادر على مساعدة أحد قطّ، ولم تعد معي سوى مشهديّة تلك المكان الفظيعة، وما أثارت لدي من إحباط وأسىً لطالما حاولت أن أنساه، بلا جدوى.

أما اليوم، فزاحمت تلك الذكريات مشاهدُ جديدة، لكنّها مألوفة، إذ بعثت الشعور ذاته من العجز الساحق والمقرون بالخجل.  

فالمطارات خارج الخدمة والطرق لم تعد سالكة، ولم تصل وسائل الإعلام الكبرى إلى المناطق المنكوبة في المدن الكبيرة التي أحالها الزلزال إلى جحيم. وحين وصلوا بعد عدة ساعات، وجدوا أنفسهم عالقين في خضمّ شوارع اختلط بها الثلج والمطر مع حطام المنازل والمباني، ومن حولهم ملايين البشر الذين ينتظرون المساعدة بكثير من السخط. فالتقديرات الرسمية تشير إلى حاجة 13.5 مليون إنسان للمساعدة في تلك المناطق، أما منظمة الصحة العالمية فقد أكّدت أن 23 مليون شخص في تركيا وسوريا سيعانون جرّاء الزلزال وتبعاته.

getty

استمر العديد من الناس بنشر الصور المروّعة على وسائل التواصل الاجتماعي، دون شعور بالحاجة لكتابة أي تعليق أو حتى توضيح موجز. فالصور كافية لبيان هول الكارثة التي نزلت بهم، كما أنهم بالاكتفاء بنشرها بلا أي تعليق إضافي يعبّرون عن شعورهم بالخذلان والإحباط الشامل، وهو ما يشعر به الجميع في البلاد بأسرها. هذا الخذلان كان قاسيًا بقدر قسوة الزلزال نفسه.

لكن سرعان ما تجللت تلك المشاهد الفظيعة بروح من التضامن والدعم، واستثارت غريزة لدى الآخرين للانخراط في هذا المصاب وتقاسمه، وأن يترك كلّ منهم أثرًا ويرفع الصوت عاليًا من بين الركام. فكلما رأى شخص في المدن المتضررة التي انتشرت بها أكوام الحطام العالية مراسلًا، صاح عليه سريعًا: "هنا، تعالَ صوّر هنا. نحن بحاجة للإغاثة.. أين فرق الإغاثة".

سرعان ما تجللت تلك المشاهد الفظيعة بروح من التضامن والدعم، واستثارت غريزة لدى الآخرين للانخراط في هذا المصاب وتقاسمه

ثم حلّ الظلام. وتوالت الأيام بعد الكارثة. من تحت الركام، سكنت الأصوات وخفتت، أما من فوقه فبدأ الناس يستوعبون الرعب من حولهم ويتكيفون معه، ووجدوا أنفسهم يقفون بطوابير أمام نقاط لتوزيع الخبز والغذاء والبطانيات. أما ما لم يخفت، فهو ذلك الشعور بالمرارة، وفظاعة الغدر المفاجئ القادم من تحت الأرض.