ريكاردو فريد مانكوزو: أستخدم السخرية كمخرج لتجاوز المعاناة لا كوسيلة للضحك
28 مايو 2025
هاتفتُ ريكاردو فريد مانكوزو، لإجراء حوار معه. كنتُ متوقعة أن يُجرى الحوار عبر تطبيق "زووم"، لكن أخبرني أنه خلال أيام سيكون في مصر، لقضاء إجازة سريعة. فورًا، اتفقنا على مكان اللقاء، فوقع اختياري على مقهى "جروبي" العتيق في وسط القاهرة والذي كنت أظنه في الأصل قد أُنشئ على يد "إيطاليي مصر". لكن، عندما حضر ريكاردو، صحّح لي الأمر، موضحًا أن من أسسه هو صانع الحلويات السويسري جياكومو جروبي والذي كان من الإقليم الناطق بالإيطالية في سويسرا. علاوة على ذلك، فالمهندس المصمِم لمبني "جروبي" في ميدان طلعت حرب، يُدعى جوزيف ماتسا والمكان عمل فيه عشرات الطليان. وقد ترسخ هذا الخطأ الشائع، لأن هناك عائلة في شمال إيطاليا تحمل نفس الاسم، وهي أيضًا مشهورة بصناعة الحلوى.
كان "جروبي" دارَ الشاي المفضلة لدى الطبقة المصرية العُليا، والأجانب أصحاب النفوذ المقيمين في القاهرة، ولن أكون مُبالِغة حين أقول: إنه، في زمانه، كان من أفخم دور الشاي في الشرق والعالم. وما يزال يحتفظ بسحره إلى اليوم، رغم تراجع حالته الداخلية. كما أنه كان في الماضي نجمًا لحضوره في أفلام وأعمال أدبية عديدة. وإلى اليوم، ظل "جروبي" أسطورة حيّة في القاهرة؛ تجسيدًا لعصر البذخ والثراء، وشاهدًا على زمن التعددية.
في كتابه "نص صعيدي ونص خواجة: ذكريات ووصفات من طليان مصر"؛ المكوّن من 350 صفحة، والصادر عن دار الكرمة في القاهرة عام 2024، يسعى ريكاردو فريد مانكوزو إلى تسجيل وقائع شخصية وحقائق عامة، وتأريخ لحياة الجالية الإيطالية التي عاشت فترة طويلة في مصر. والتي تناقص عددها مع مرور الزمن، حتى كادت تندثر، بعدما تقلصت أعدادهم إلى عشرات الأفراد، بعد أن كانوا يُقدَّرون بالآلاف قبل سبعين عامًا.
حديثي هنا مع ريكاردو عن كتابه وتاريخ الطليان في مصر، لا عن مقهى جروبي!

ثمة علاقة شرطية في العقل الجمعي في العالم أجمع بين الأكل وإيطاليا، فلم يغفل مؤلف الكتاب وضع وصفة لأكلة أو مشروب إيطالي بين الحكاية وأخرى. وذلك بمقادير متناهية الدقة، معتمدًا على ذاكرة الحواس، وما تعلمه من والدته أثناء طفولته. فالكتاب يُقدّم بانوراما بصرية مدهشة، متمثلة في صور عائلية خاصة له ولأسرته، وصور لمشاهير، وحتى لمغمورين من "الطليان المصريين". وذلك إلى جانب بعض آثارهم التي ظلت شاهدة على وجودهم، ودليلًا أنهم "مرّوا من هنا".
ينتمي ريكاردو (عُمر) فريد مانكوزو إلى جذور متعددة الاتجاهات، تنسج خريطة هويته بين الشمال والجنوب. فمن جهة والدته، يمتد نسبه القريب إلى إيطاليا، حيث تنحدر عائلتها، لكن رحلته الوراثية لا تتوقف هناك، بل تتفرع بعيدًا لتشمل أصولًا ألمانية، روسية، فرنسية، وبولندية. أما من جهة والده، فتنبض في عروقه جذور مصرية أصيلة، تنتمي تحديدًا إلى صعيد مصر، حيث محافظة سوهاج. فتلك العبارة ليست مجرد وصف، بل تلخص بتلقائية التكوين النفسي العميق لهذا الشاب، الذي تشكّلت هويته من فسيفساء ثقافية أغنت تجربته، ومنحته رؤية إنسانية واسعة تتجاوز الحدود والجغرافيا.

- هل تعطينا نبذةً عنك ولماذا اتجهت للكتابة في هذا التوقيت؟
أنا نصفي مصري ونصفي الآخر إيطالي، وأقيم خارج مصر منذ عام 2001. أما الكتابة، فبعيدة عن عملي. مجالات اهتمامي المفضلة وهواياتي تدور حول الطهي، وتاريخ مصر وإيطاليا الحديث. في عام 2020، انضممتُ بالصدفة إلى مجموعةٍ لطيفةٍ على فيسبوك تُدعى «WhatsUp in Recipes»، وهناك وجدت نفسي أكتب تلقائيًّا عن هواياتي الأحبّ إلى قلبي: الطبخ، الوصفات الإيطالية، وتاريخ الطليان في مصر. فأنا مهندس، ولستُ طاهيًّا محترفًا، أي أن علاقتي بالمطبخ تأتي من باب الهواية، كحال الكثيرين. وُلدت هوايتي في الطبخ من الساعات الطويلة التي كنت أقضيها في المطبخ إلى جوار أمي. أما شغفي بالتاريخ، فغذّته الأحاديث التي كانت تملأ وقتي مع والدي.
- وماذا عن جمع المادة التي نشرتها في كتاب؟
هذا الكتاب يجمع منشورات كتبتها ونشرتها بين عامي 2020 و2022. لم يخطر ببالي يومًا أن هذه المنشورات قد تتحول إلى كتاب يروي ذكرياتي العائلية، ويحكي عن بلديَّ مصر، ويؤرّخ لتراث الطهي الذي نشأت في كنفه. لقد أصبحت الكتابة مصدر راحة لي بعد أن تعلمت الكتابة باللغة العربية عام 2020. لكنها لم تأتِ بدافع واضح أو قرار صريح متعمد؛ بل بدأت صدفة أكثر منها نيّة مُسبقة. في البداية، لجأت إليها كوسيلةٍ للتواصل مع نفسي في لحظات العُزلة، وكانت طريقة للهروب من الشعور بالوحدة الذي لازمني لفترات طويلة. هكذا جدتُ في الكتابة ملاذًا حقيقيًا، أعبّر فيه عمّا لا أستطيع قوله في الحياة اليومية. لم تكن فقط أداة للتعبير عن الأفكار، بل كانت بمثابة حوار داخلي عميق مع الذات، ومن خلال هذا الحوار، بدأت أتعرف على نفسي أكثر. ففي أحد الأعوام، أُصبتُ بورم في المخ، وكان عليّ أن أظل وحيدًا لفترات طويلة في غرفة مظلمة، أحاول أن أستعيد توازني الجسدي والنفسي. في تلك اللحظات، كانت الذكريات تتدفق بقوة، وكانت العُزلة خانقة، لكنها في الوقت ذاته دفعتني للبحث عن مخرج... وهنا جاءت الكتابة. فالكتابة أصبحت شكلًا من أشكال التفاعل مع العالم، ولكن من خلال الحروف والكلمات. هي طريقتي الخاصة في الحياة، وفي التوازن، وفي النجاة.
- من أين جاءت تسمية "نُص صعيدي ونُص خواجة"؟
اسمي المصري هكذا. فقد اعتاد والدي المصري الصعيدي، أن يصفني به أمام الناس على مر السنين. وحتى اليوم، لا أجد عبارة تعبّر عني بدقة أكبر من هذه.
- ماذا عن انتمائك للهويتين في الوقت ذاته؟
نشأت بين ثقافتين: الأولى مصرية والثانية إيطالية. فهذا التداخل بين الثقافتين شكّل هويتي بطرقٍ لا يُمكن وصفها بسهولة. في أوقاتٍ كثيرة، كنت أشعر أنني لا أستطيع أن أكون إيطاليًّا تمامًا. وأيضًا لا يمكنني أن أكون مصريًّا بشكل كامل. كانت هناك دائمًا تلك الفجوة بين ما هو مفروض عليّ من المجتمع الإيطالي، وما كنت أعرفه من خلفيتي المصرية. ولكن في النهاية، هذه الهوية التي تعيش بين الثقافتين منحتني قوة لا أستطيع إنكارها. أصبحت أرى نفسي كما لو كنت أعيش في مكانٍ بين هويتين، وهو ما جعلني أتمكن من النظر إلى الأشياء من زاويتين مختلفتين. وهذا ساعدني على إدراك وتقدير التنوع. هذه الهوية الثالثة كانت عبارة عن حالة وسطية، شيء هجين جمع بين الثقافتين بشكلٍ منظم، ولكن عشوائي في نفس الوقت. وكانت، في ذات الوقت، أكثر حرية وأكثر قدرة على التكيف مع الظروف المختلفة.
بالمناسبة، هذه هي هوية كل إيطالي عاش في مصر، والتي نشأت عنها لهجة خاصة في النُطق وهي مزيج بين الإيطالية والفرنسية والعامية المصرية. وأقرب دليل على ذلك لهجة المطربة العالمية داليدا، سواء في نطقها المصري أو الإيطالي. والعجيب أنها ما زالت موجودة بين الإيطاليين، رغم أنهم غادروا مصر منذ وقت طويل. والأعجب أن أولادهم الذين وُلدوا في إيطاليا ولم يزوروا مصر إلا نادرًا، ما زالت تلك اللهجة تسري على ألسنتهم وقت الشجن وعند وصفهم لحياة الأهل خلال فترة تواجدهم في مصر. فهم يستخدمون تعبيرات خاصة تدل أن لهم صلة بمصر!
اللغة في الكتاب هي العامية المصرية، يغلب عليها السخرية والعفوية، حتى في أشد الحكايات مأساوية، وخصوصًا ما يتعلق باعتقال الطليان في مصر إبان الحرب العالمية وأحداث الحرب، والتي كان أحد جنودها جده، أرماندو مانكوز.
- ماذا عن العامية المصرية الممزوجة بالسُخرية والعفوية في متن الكتاب؟
اللغة بالنسبة لي ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وسيلة للتعبير عن أعمق العواطف والأفكار التي لا أستطيع أن أصفها بالكلمات العادية. فكل لغة تحمل معها تاريخًا وثقافة، وهي شكل من أشكال التعبير لا يمكن تجاهله. اللغة العامية، على وجه الخصوص، هي التي تساعدني في الكتابة، لأنها تسمح لي بأن أكون على طبيعتي، وأعبّر عن نفسي بطريقة أكثر صدقًا، وأكثر تعبيرًا عن مشاعري الحقيقية. أعتقد أن الكتابة باللهجة العامية تمنحني قدرة على عيش اللحظة بشكلٍ أكثر حميمية وواقعية. كما أن السخرية هي أداة مهمة بالنسبة لي. هي وسيلة للتخفيف من الألم، للنجاة من مشاعر الإحباط والضغوط. السخرية لا تعني بالضرورة الهزل، لكنها طريقة لتفكيك الألم والتحديات التي نمر بها، وتحويلها إلى شيء يمكن تحمله، بل وحتى الاستمتاع به أحيانًا. أستخدم السخرية كمخرج لتجاوز المعاناة، لا كوسيلة للضحك.
- حدثنا عن فكرة ترجمة الكتاب إلى اللغة الإيطالية؟
الترجمة دائمًا ما تضعنا في مواجهة مع حدودنا اللغوية والثقافية. من الصعب نقل فكرة بين لغتين دون أن نفقد جزءًا من معناها أو نترك شيئًا خلفنا. فأنا أعيش بين لغتين، الإيطالية والعربية، وكل واحدة لهما طريقتها في التعبير عن المشاعر. أحيانًا، كلمة إيطالية لا تجد ما يعادلها في اللغة العربية، والعكس صحيح. هذه الفجوة بين اللغات هي التي تجعل الترجمة عملية صعبة جدًّا، وخصوصًا أمام شخص مثلي، ليس عمله الترجمة أو الكتابة. أنت دائمًا أمام تحدٍ لفهم ما تعنيه كلماتك بالنسبة للآخرين، وتحاول أن تجد كلمات تُعبّر عن نفس المعنى دون أن تفقد الأبعاد الثقافية للرسالة. هذا يجعلني دائمًا في حالة من العجز تجاه قدرتي على التعبير الكامل، ويخلق شعورًا دائمًا بعدم القدرة على توصيل المعنى كما أردت. أعتقد أن الترجمة هي مجرد محاولة لفهم حدودنا كبشر، وما يمكننا أن نعبّر عنه بالكلمات.
المُلفِت في هذا الكتاب، تلك الوصفات الإيطالية التي تتخلل الصفحات، فتضفي عليه طابعًا حميميًا خاصًا، وكأن القارئ يجلس مع صديق قديم، يتحادثان في الذكريات، وحين يوشك الحديث على نهايته، ينهض هذا الصديق ليُحضّر له طبقًا شهيًا من مطبخ العائلة. هذه اللمسة جعلت القراءة أكثر دفئًا وإنسانية، وكأن الحكايات تُروى على مهل بين نكهات الطماطم والريحان والزيتون وزيته ورائحة الخبز الطازج.

- كيف خطرت لك فكرة مزج الطعام بالذكريات؟ وهل كنت تقصد بهذا الدمج خلق حالة من الأُلفة بينك وبين القارئ، أم أن الأمر جاء عفويًا بدافع الحنين؟
لم أكن أعرف السبب. حتى جاءني صديقي، وهو من عائلة إيطالية يهودية في مصر، وأوضح لي. هو وُلد في إيطاليا، ولكن عائلته مصرية. حتى الآن، ما زال يأكل الأطعمة المصرية في المنزل، مثل المحشي والكشري. زوجته إيطالية، وتعلمت الطبخ المصري من أجله، لأنه يحب الأطعمة المصرية. ثم قال لي: "أنت كتبت عن الأكل لأن الأكل هو آخر خط دفاع عن الهوية. لقد فهمت الآن. عندما شرح لي ذلك، أدركت أنني كتبت عن الأكل لأني رأيت أمي تحاول الحفاظ على الهوية الإيطالية في مصر عندما بدأت الهوية تضعف.
كان الأكل هو الطريقة الأخيرة التي تحاول بها الحفاظ على هويتها وهويتي. رغم أنها كانت تحب الأكل المصري، كانت في البيت تُعد الأطعمة الإيطالية 95% من الوقت. كانت تخاف أن تختفي الهوية، وكان ذلك هو السبب في تمسكي بالأطعمة الإيطالية. ولكنني لم أكن أعرف ذلك، حتى وصلني تفسير صديقي. كان ذلك دفاعًا عن هويتنا. أما بالنسبة للطعام المصري، أنا لا أستطيع طهيه بشكلٍ جيد. حتى لو حاولت، يخرج المذاق إيطالي. حتى الفول، أجد أنه يخرج بنكهة إيطالية. كما أن طريقة استخدام التوابل تختلف. الإيطاليون لا يستخدمون الكَمون، بينما نستخدمه في المطبخ المصري بكثرة. والتوابل الإيطالية تختلف عن التوابل المصرية. أما بالنسبة للجُبن، فهي جزء من طعامنا الإيطالي، ولكني لا أحب أن يُضاف الجبن إلى كل شيء. حتى في المحشي، أصبح الناس يضيفون الجبن، وهذا ما أعتبره نوعًا من التطرف في الطهي. بالمناسبة، أنا أرفض بعض التغييرات في الطعام المصري، مثل "الكنافة بالمانجو" أو "التقاليع الجديدة" في الأطعمة.
أنا أؤمن بضرورة العودة إلى الجذور. وفي النهاية، مشكلتي الكُبرى مع الطعام المصري تكمن في أنه أصبح كله بنفس اللون. صار كل شيء بنيًّا، بدءًا من اللحوم إلى الأرز والخضروات. كانت الأطعمة في الماضي غنية بالألوان: الطماطم الحمراء، الخيار، البصل. أما الآن، نخلط المكونات بطرق لا تبرز الألوان الأصلية للطعام. أنا أذكر أيام الطفولة عندما كان الطعام يظهر بألوانه الطبيعية، مثل "اللوبيا" الحمراء مع الأرز الأبيض. أما الآن، كل شيء أصبح بُنيًّا (أحادي اللون). حتى المحشي أصبح يُضاف إليه دِبس الرُّمان، وهذا لا يبدو مصريًا بالنسبة لي.
ويضيف ريكاردو:"أنا الآن لا أعرف كيف أُعد الطعام المصري. أبدًا. كل شيء أطبخه يخرج بطعم إيطالي. حتى الفول. حتى أبسط الأكلات... يخرج الطعم إيطاليًا. وربما كان ذلك خطأ والدتي أيضًا، أو لعله كان من فرط حبها".
ننتقل الآن إلى فصل آخر من الحكاية... فصل يتناول الأثر الذي تركه الإيطاليون في مصر، ليس فقط كأفراد، بل كثقافة وفن وعمارة وإنجازات حفرت بصمتها في ذاكرة البلد. فالقصص هنا بسيطة في عرضها، لكنها تطلبت جهدًا ضخمًا في التنقيب والبحث عن الحقيقة وسط صفحات التاريخ. لا حاجة لذكر كل الأسماء، فبعضها قد يضيع بين السطور، والبعض الآخر لم يحظَ حتى بذكر في كتب التاريخ الرسمية. ولكن الأثر يحضر بقوة، ولا يُمكن تجاهله.
ومن الفنانين الذين عاشوا في مصر، عشقوها أو دُفنوا على أرضها، إلى الرياضيين الذين رفعوا رايات أنديتنا، كان للإيطاليين دور لا يُنسى. لكن الأهم، ما تركوه من بصماتٍ على وجه المدن: مبانٍ شامخة، ومعالم تاريخية، ومؤسسات ما زالت تنبض بالحياة إلى اليوم.
في الإسكندرية، يمكن أن ترى لمستهم في المتحف اليوناني الروماني، حيث أسسه وتعاقبت عليه الإدارات الايطالية، المستشفى الإيطالي، فندق سيسيل، عمارة فينيسيا الصغيرة صممه المعماري جوزيف بالوريا، ومحطة الرمل أسسها أنطونيو لاشياك. وفي القاهرة، نُبهر بتصميم دار الأوبرا الخديوية (التي التهمتها النيران لاحقًا)، مبنى بنك مصر في شارع محمد فريد، قصر الزعفرانة، وزارة الخارجية القديمة، وحتى إعادة ترميم قصر عابدين بعد الحريق. فهم من أسسوا البريد الخديوي، وشاركوا في تصميم مساجد شهيرة مثل مسجد عمر مكرم، ومسجد الزمالك. وتركوا لمستهم في الجمال المعماري في عمارة جاستون وايزر.
لكن هناك حقيقة مؤثرة يصححها لنا ريكاردو مفادها أن المصمم الحقيقي لقناة السويس، كان إيطاليًا يدعى نجرلي، رحل قبل أن يرى حلمه يكتمل. ومصر قد اعترفت بجهوده وأسمت شارعا باسمه في مدينة الاسماعيلية ولكن بعد حركة الجيش في 23 يوليو تغيير اسم الشارع لاسم الجيش. وأن عمالًا إيطاليين كثيرين، مجهولي الأسماء، قضوا في حفر القناة، أو عاشوا بقية أعمارهم يعانون من أمراض خلّفها ذلك العمل الشاق. فهذه ليست مجرد سطور في كتابٍ. هذه شراكة حضارية، دفء إنساني، وتاريخ مشترك لا يجب أن يُمحى. الإيطاليون في مصر لم يكونوا ضيوفًا، بل كانوا من البنّائين.
"ريكاردو"، في بحثه الدؤوب عن الحكايات المنسية، يعيد إحياء جانب مهم من العلاقة بين الإيطاليين ومصر. ليس فقط عبر أسماءٍ شهيرة عاشت وماتت على هذه الأرض، بل من خلال أثر عميق تركه هؤلاء الناس في وجداننا، دون أن تلتقطه غالبًا كتب التاريخ التقليدية. نحن لا نتحدث فقط عن فنانين مثل داليدا أو استيفان روستي ونيللي مظلوم، ولا عن أبطال رياضيين مثل ألدو ستيلا، بل عن جيل كامل ساهم في بناء وجه مصر الحديث. نحن نتحدث عن الذين شيدوا المتاحف، صمموا المسارح، تركوا توقيعهم على عمارات وقصور ومساجد ومبانٍ لا تزال حتى اليوم شاهدة على براعتهم.

- ماذا عن محاولات الإيطاليين لاستعادة الروح المصرية بعد عودتهم؟
اكتشفت بعد ذلك، من خلال أصدقائي من الطليان الذين عاشوا في مصر، أنهم حاولوا في إيطاليا أن يعيدوا خلق مناخ شبيه بمناخ مصر. ففي ميلانو، لدينا مجرى مائي صغير – ليس نهرًا بالمعنى الحقيقي – هو أشبه بترعةٍ صغيرةٍ قام ليوناردو دافنشي بحفرها في زمانه. كان أولئك الذين عادوا من مصر يذهبون دومًا إلى هذا المكان. كانوا يشربون الشاي هناك ويتأملون المياه… لأن ذلك يذكرهم بالنيل. وطبعًا، الجميع كان يشتكي من البرد. فيقولون: ما الذي جاء بنا إلى هنا؟ كيف كانت شققنا في مصر؟ يتذكرون كيف كان الناس يتحدثون بالفرنسية. الجميع يحنّ، الجميع يروي نفس الشكاوى، نفس التفاصيل الصغيرة.
- هل تصف لنا ما آلت إليه الأمور في الحاضر بين الثقافتين من وجهت نظرك؟
منذ فترة قصيرة، وقعت عيني على صورة قديمة لعائلة مصرية بسيطة تعود لفترة الستينيات. كانت تتكوّن من أم وأطفالها، وكان هناك شيء لافت في ملامحهم وملابسهم؛ شيء جعلني أتوقف. فقد بدا لي المشهد مألوفًا بشكل غريب، وكأنه نسخة طبق الأصل من صور قديمة لعائلتي في إيطاليا خلال نفس الحقبة. الدفء، البساطة، وحتى تفاصيل الأزياء، كل ذلك كان يشير إلى تشابه ثقافي عميق بين العائلتين، رغم بُعد المسافة واختلاف الجغرافيا. ولو نظرنا إلى العائلات المصرية والإيطالية في الوقت الحاضر، سنجد تباعدًا كبيرًا في الشكل والهوية والأنماط المعيشية. كأن كل مجتمع اختار طريقًا مختلفًا تمامًا، وانفرط ذلك الخيط الخفي الذي كان يجمعهما يومًا ما وكذلك إحساسي بتباعد هويتي المصرية والايطالية بداخلي.

في ختام هذا الحوار الشيِّق، يتضح أن مسألة الهوية ليست مجرد انتماء جغرافي أو ثقافي، بل هي تجربة معيشة، وذاكرة شخصية، وتراكم وجداني يتجاوز الحدود التقليدية. ما قد يبدو للبعض ازدواجًا في الانتماء، هو لدى ريكاردو أحد أشكال الثراء الإنساني والتعدد الداخلي، حيث تلتقي الذاكرة العائلية بالتاريخ، وتتقاطع اللغة مع الحنين، وتصبح الثقافة جسرًا لا حاجزًا. لقد أعاد هذا الحوار إحياء صفحات منسية من علاقةٍ متجذرة بين مصر وإيطاليا؛ علاقة لم تُبنَ فقط بالمباني والوثائق، بل بالأطعمة واللغات والعواطف. وبين تفاصيل السرد، يتبدى بوضوح أن الهويات الهجينة ليست حالة ضعف، بل مصدر قوة ومرونة، تعكس قدرة الإنسان على التأقلم، والتجذر في أكثر من أرضٍ، والانتماء لأكثر من لغة.