09-أغسطس-2018

إيرينا بابنشيفا

"غادرنا والدي في بادئ الأمر، أو بالأحرى، انتقلت مونيكا؛ لتعيش معنا في البداية". بهذه الجملة التي جاءت واضحة وبكلماتٍ محدودة، استهلّت الكاتبة والروائية البلغارية إيرينا بابنشيفا (1975) روايتها "ريشة طائر البجع" الصادرة أخيرًا عن "منشورات المتوسط"، ترجمة أماني لازار. وبهذه الجملة نفسها، وضعتنا بابنشيفا في قلب الحدث الذي بنت عليه وقائع روايتها هذه. حيث في المغادرة ما لا يُبشِّر بخيرٍ، أو يعدُ بأمان. وفي كلمة "انتقلت" ما يُشير أيضًا إلى مأساةٍ ما تُفسِّر حدوث "المغادرة". هكذا، استثمرت بابنشيفا المغادرة والانتقال معًا في بناء استهلالها هذا، والذي سوف يصيرُ دلالة مباشرة وصريحة على رحيل مستمرّ، واستقرار مفقود، وطمأنينة تغيبُ داخل أحداث الرواية.

استثمرت بابنشيفا المغادرة والانتقال معًا في بناء استهلال رواية "ريشة طائر البجع"، وهو ما سيصيرُ دلالة مباشرة وصريحة على رحيل مستمرّ

تفتحُ إيرينا بابنشيفا روايتها "ريشة طائر البجع" على حياة أسرة بلغارية صغيرة تبدو، لأوّل وهلة، مستقرّة. يتكوّن عندنا هذا الانطباع السريع حول نمط حياة هذه العائلة منذ الصفحات الأولى للرواية، وذلك بفعل الأجواء الرتيبة والمملّة التي ينقلها لنا مارتن، المراهق الذي أسندت إليه بابنشيفا مهمّة سرد حكاية عائلته، والده ووالدته. هكذا، يسرد مارتن الصغير الحكاية بلغة سهلة غير متكلّفة أو مستعرضة. ولربّما حرص إيرينا بابنشيفا صاحبة رواية "شبه عاطفي" على كتابة روايتها بلغة سهلة وبسيطة وغير متحذلقة، هو ما دفعها لأن تُسنِدَ مهمّة السرد إلى مارتن الذي يحكي لنا ما يراه أمامه، دون أن ينحاز إلى شخصيات الرواية المتصارعة: والده، والدته، وصديقتها مونيكا.

اقرأ/ي أيضًا: أولاد الطين.. مهمَّشو السرد الروائي

تُزيح الكاتبة أسباب هذا الصراع بين هذه الشخصيات جانبًا لبعض الوقت، لتنشغل أوّلًا في تقديمها لشخصيات روايتها، فتبدأ بوصف واقع حياة والدي مارتن – لينا وزوجها إيفان – التي تشهد، بفعل الرتابة والشبه بين أيامها المتكرّرة، موتًا بطيئًا، واحتضارًا غير معلن للعلاقة التي جمعتهما منذ سنوات طويلة. هذا الموت البطيء، يأتي كنتيجة طبيعية لانصراف لينا وتفرّغها الكلّي لعملها من جهة، واهمالها لزوجها ومنزلها من جهة ثانية، وإذ بالمبنى الذي تسكنه العائلة يفقد صفة "منزل"، ويتحوّل شيئًا فشيئًا إلى مكان يأوي عددًا من الغرباء. ومن هنا، تشتدُّ البرودة بين الزوجين، وتصير ممارسة الجنس، بالنسبة إلى لينا، واجبًا ثقيلًا عليها الانتهاء منه بأسرع وقت ممكن، بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن الحب الذي يجمعها بزوجها، أو، أقلّ ما في الأمر، وسيلة للحفاظ على علاقتهما. وبين والده المتذمّر بصمتٍ من واقع حياته وشكلها، وأمّه المهملة لنفسها وعائلتها، نجد مارتن غارقًا هو الآخر بصمت ورتابة تدفعه بعيدًا عن والديه.

ريشة طائر البجع

إذًا، ما يفتقده مارتن ووالده هو الحياة التي لا تنفكّ لينا تطردها حرصًا خاطئًا منها على زوجها وابنها الوحيد. وإذ بهذه الحياة المفقودة تأتي مع مجيء مونيكا، صديقة لينا، إلى منزلها للإقامة فيه لبعض الوقت. يتحوّل المنزل الرتيب والملل حينها إلى آخر يضجّ بالحياة والصخب. وتتحوّل الليالي التي كانت باردة قبل مجيئها، إلى أخرى ملتهبة بفعل حرارة الأحاديث والضحكات بين إيفان ومونيكا. هكذا، يصير المنزل مكانًا مناسبًا لكلّ من إيفان ومارتن، بينما يتحوّل في نظر لينا إلى آخر غير مألوف، لا سيما وأنّ علاقتها بمونيكا كانت قد انقطعت منذ سنواتٍ طويلة، بعد أن تزوّجت الأخيرة عشيقها.

"ريشة طائر البجع" رواية تُحاول أن تبيّن مصير الفرد في بيئة تفرض عليه نمطًا معينًا من الحياة، نمطًا غالبًا ما يكون مأساويًا وينتهي بكارثة

شيئًا فشيئًا، تحوّلت العلاقة بين مونيكا ولينا من علاقة هادئة ومستقرّة إلى أخرى حذرة ومضطّربة، سوف تنتهي بسرقة مونيكا لإيفان ومغادرتهما معًا للمنزل الذي شهد انقلابًا عنيفًا عصف بحياة العائلة واستقرارها الهزيل. هكذا، وجدا مارتن ولينها نفسيهما وحيدين ومحاصرين بقسوة ما حدث، وشدّة وطأته عليهما معًا. إذ إنّ ما فقدته لينا هو زوجها، بينما فقد مارتن والده ووالدته ومونيكا معًا. وأخيرًا، تجد لينا نفسها برفقة مارتن في منزل والدتها، حيث تبدأ هناك مرحلة إعادة تأهيل تخفف من وقع الصدمة عليها، وتنتشل مارتن من الحالة النفسية التي فرضتها عليه الأحداث الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا: لورين برلنت.. خارج مستنقع السلبية أمام عادية العنف وبنيويته

"ريشة طائر البجع" رواية تُحاول أن تبيّن مصير الفرد في بيئة تفرض عليه نمطًا معينًا من الحياة، نمطًا غالبًا ما يكون مأساويًا، وغالبًا ما ينتهي بكارثة أيضًا. إنّها رواية تحاول النفاذ إلى دواخل البشر ورصد مواطن الاختلاف بين شخصٍ وآخر. ما يؤهّلها لتتعدّى كونها رواية عائلة بعينها، وتصير رواية تعكس حكايتها الواقع اليومي لبشر الطبقة المتوسطة وكفاحهم في بلغاريا وغيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شبح ميشيل فوكو في 2018.. رباعية ختام لـ"تاريخ الجنسانية"

إلياس فركوح.. في بئر الأرشيف